الجدار: من هايل إلى سيطان
أفكر بالكتابة لسيطان منذ أن سمعت بمرضه وسوء وضعه الصحي، ولا أجد الجرأة ولا الكلمات لمخاطبته، أعيد قراءة رسائلنا القليلة المتبادلة منذ ثلاثة أعوام، وأعود مرارا وتكرارا إلى إحدى عباراته المذكورة في واحدة من تلك الرسائل، «نحن وأنتم نعيش حالة النزوع نحو الخلاص، ولكل منا حائط يتخطاه بوسائله، حيث سنلتقي يوما عند الأفق، حيث تشرق الشمس دائما...».ولا أفلحت وسائلنا ولا وسائلهم في تخطي أي من الجدران حتى اللحظة. عالية وكأنها تصل إلى السماء.
سيطان الولي كان يكتب من سجنه في الرملة، حيث يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1985. محكوم بالسجن سبعة وعشرين عاما لانخراطه في المقاومة السرية في الجولان آنذاك. ذلك كان الحائط الذي يحاول أن يتخطاه، ولايزال. وقتها، نظمنا «عملية» تبادل رسائل، بيننا نحن هنا، وبين أسرانا السوريين في السجون الإسرائيلية. لم يكن مدهشا أن كثيرين منا لم يعلموا بوجود أولئك الأسرى منذ أكثر من عقدين في سجنهم. كانت تجربة عامرة بالمحبة. في بعض أوجهها، كانت تبادلا لخبرات وأوجاع الجدران العالية. شكونا لهم وحكوا لنا. سمعنا خيالات أصواتهم، وتلمسنا آثار أصابعهم على شاشات الكمبيوتر، حيث تصلنا الرسائل عبر أصدقاء رائعين في الجولان المحتل. وما هي إلا أشهر، حتى عادت المسافة لتبتعد بنا. سرقتنا نحن هنا، موجات الاعتقالات المتلاحقة، وغياب أصدقائنا وأحبتنا في السجون. عدنا لننغمس أكثر وأكثر في تقارير أوضاع معتقلينا، نشطاء وسياسيين ومثقفين، ندبج رسائل الاحتجاج وعرائض التواقيع، وكأن الزمن لا يتحرك، أو يستنسخ نفسه بشكل أبدي، ذلك كان الحائط الذي نحاول أن نتخطاه، ولانزال. حين سمعت بإجراء عملية استئصال كلية سيطان نتيجة وجود ورم خبيث، واستمرار تدهور وضعه الصحي، عادت بي الذاكرة إلى الوقت الذي تعرفت فيه إلى سيطان وبقية الأسرى، عندما أفرج عن الأسير هايل أبو زيد وهو مصاب بمرض عضال، وتوفي بعد بضعة أشهر، كانت كافية لتذكير من نسي أو من لم يعلم، بمأساة هؤلاء ومعاناتهم.واليوم، نعود لنكتب من جديد عن سيطان ومرضه، وكأننا ننتظر شبح الموت ليذكرنا بهم، حمى الله سيطان من كل مكروه. في مجدل شمس الجولان المحتل، بدأت فعاليات مختلفة تضامنا مع الأسير المريض. وتذكرته بضع صحف محلية بالكلمات الطيبة. وهو ما أعادني إلى قراءة ما كتب سيطان في إحدى رسائله عام 2005: «نحن الأسرى نحتاج إلى أكثر من التمني والتعاطف ونسج الآمال، إننا نتوق إلى الحرية أكثر... نحن لسنا لأنفسنا بل لقضية الجولان... قضية تعادل غيرها، فهل تحظى باهتمام مهتم؟ الجولان ابن شرعي لأزمة عصفت بهذا الوطن، فهل يعترف بها أب أو أم؟».اعتبر سيطان أن كلمات التعجب والإطراء وعبارات التقدير والتثمين، تنطوي على شكل من أشكال قلة الحيلة والعجز عن السعي إلى تحريك ما يمكن تحريكه واستخدام ما ينفع وعمل ما يجب. وناشد كل ذي قدرة إثارة قضيتهم «على المستوى الإعلامي والرسمي، وطرق الأبواب الموصدة في وجه الحلول الواقعية، التي منها ما فاتنا الالتحاق بها، ومنها ما تم تغييبنا عنها بالإهمال واللامبالاة والجهل، ومنها ما وضع في نطاق التابو غير القابل للنقاش أو التداول بشأنه». لم يخف سيطان إحساسه بالعتب في رسالته التي ختمها بالعبارة التالية: «وتسبك لأجلنا بعد هذا الخطابات المرصعة بالكلمات والعبارات الفقاعية ذات الصوت المدوي... لكن!».في رسالة أخرى إلى أحد الأسرى المحررين يطرح سيطان قضية مبادلة رفات إيلي كوهين بالأسرى: (إن إعادة رفات إيلي كوهين في إطار صفقة تبادل كهذه هي قضيتنا قبل أن تكون قضيتهم. فإما العمل على إتمام صفقة كهذه الآن، أو أن تبقى رفات إيلي كوهين في مكانها إلى الأبد تحت اسم «كامل أمين ثابت»).استذكر سيطان في رسالته الأسرى الذين تم استثناؤهم من صفقات تبادل الأسرى مع إسرائيل، «بسبب ذات المعايير الموهومة والمماثلة، وبسبب الإهمال الدائم والتغييب غير المبرر عن أجندة العمل السياسي، كجزء من تغييب قضية الجولان برمتها عن هذه الأجندة». لعله يشعر بشيء من الأمل الآن، بعد سماعه نبأ عودة المفاوضات السورية الإسرائيلية أخيرا. حيث من المنطقي والبديهي أن تكون قضية أسرى الجولان على طاولة المفاوضات، من غير أن يعني احتمال فشلها، طي هذا الملف إلى مفاوضات مستقبلية جديدة. للأسرى متوسط أعمار مثل جميع البشر في النهاية! التضامن الإنساني والإعلامي مع سيطان وبقية الأسرى أمر مطلوب. «إننا كالأرض التي تنتظر الهطل منذ عشرين عاما» قال سيطان في رسالته الأولى من تواصلنا الكتابي. لكننا نعرف أن كلماتنا لن تحررهم أو تنقذ حياتهم المهددة بالمرض والتعب. لا يجب أن نفقدهم واحدا تلو الآخر، قبل أن تطرح قضيتهم بإصرار وجدية على طاولة المفاوضات. * كاتبة سورية