لم يمر وقت كان الجمهور الكردي السوري (نحو 10% من نحو 23 مليون سوري) خارج الحياة الوطنية السورية، سياسيا وإيديولوجيا وسيكولوجيا، أكثر من الفترة الراهنة.

Ad

ما الجديد في الوضع الكردي السوري اليوم؟ وبم يختلف عما كانه في أوقات سابقة؟

رغم أن إيديولوجية عهد الرئيس حافظ الأسد كانت عروبية مطلقة وتنكر وجود الأكراد (سكان البلاد «عرب سوريون» فحسب) مبدئيا ودستوريا، إلا أن نظامه طور مجموعة من المقاربات العملية لكسب ولاء قطاع من النخبة الكردية المحلية. أولها إتاحة تمثيل جزئي لهم في أجهزة السلطة التشريعية والمحلية. في عام 1990 أتيح لمرشحين أكراد الفوز في انتخابات «مجلس الشعب»، وفي الفترة نفسها سهل أمر دخول آخرين إلى المجالس المحلية. وعملت أجهزة الأمن المحلية، في منطقة الجزيرة بخاصة، على الجمع بين سياسة تأليف قلوب مركبة (صنع شعور بوحدة الحال ضد نظام صدام حسين، وضد ما يفترض من ميل عرب المنطقة إلى نظامه) وبين تفريق المنظمات الكردية ومنع توحدها.

وثانيا، العلاقات الطيبة بين النظام وبين الكرد العراقيين وحزب العمال الكردستاني التركي. كانت هاتان الساحتان المجاورتان متوترتين، ولطالما شهدتا أعمالا عسكرية، ما أتاح للحكم السوري مد أصابعه فيهما معززا من دوره الإقليمي. المحصلة غير المرئية عادة لذلك هي المزيد من تهدئة الساحة الكردية السورية، الهادئة أصلا. كان الكرد السوريون يرون إخوانهم الأتراك والعراقيين في دمشق وفي «الجزيرة» يعاملون كحلفاء، ويمنحون هوامش تحرك واسع. فكان ذلك ينعكس استرخاء نسبيا من جهتهم حيال الأوضاع القائمة.

وفي المقام الثالث كان لأكراد سوريين مشاركة جيدة عموما في الشيوعية السورية، الموالية منها بخاصة (الحزب الشيوعي السوري بقيادة المرحوم خالد بكداش، الكردي الأصل) وبدرجة أقل المعارضة («حزب العمل الشيوعي» بخاصة). وهو ما كان يتيح لقطاع من الناشطين الكرد الانخراط في الحياة السياسية الوطنية بشروط لا تختلف عن شروط انخراط غيرهم.

الواقع أن المشكلات التي يشكو منها الأكراد اليوم كانت قائمة جميعها: عدم الاعتراف المبدئي بوجود جزء من الشعب السوري ليس عربيا، وحرمانهم تاليا من تعلم لغتهم وتطوير ثقافتهم؛ المحرومون من الجنسية؛ «الحزام العربي» (قرى عربية على الحدود مع تركية، أقيمت لمنع الأكراد السوريين من مجاورة الحدود، وربما لمنعهم من التواصل مع جماعات كردية على الجهة المقابلة من الحدود)؛ فضلا عن اعتقال ناشطين أكراد بين حين وآخر. لكن الآليات الثلاثة المذكورة، تمثيل جزئي للمجتمع الكردي في «الدولة»، العلاقات الطيبة مع كرد عراقيين وأتراك، وانخراط أكراد في أحزاب سورية، كانت تعدل من تأثير تلك المشكلات الصعبة.

لكن شيئا فشيئا تآكل تأثير هذه الآليات الثلاث، وتدهورت أحول الشيوعية السورية دون انقطاع بفعل ما تعرضت له من تقييد شديد، إما في قفص «الجبهة الوطنية التقدمية» الذهبي وإما بالقمع الأمني وأقفاص السجون الحديدية، قبل أن تتدهور أكثر بفعل انهيار الشيوعية عالميا في أواخر ثمانينيات القرن العشرين.

اليوم قد يوجد ناشطون أكراد في حزب المرحوم بكداش، ربما أقل من أي وقت سبق، لكن ليس ثمة ناشطون أكراد في تنظيمات المعارضة. يعارض الأكراد ضمن أحزابهم الخاصة. شراكتهم مع عرب ضمن تنظيمات مشتركة محدودة جدا.

في المقام الثاني اضطرت السلطات السورية إلى تسفير عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التركي من سورية، ما ترتب عليه مباشرة اعتقاله من قبل السلطات التركية، واتفاق أضنة 1998 الذي قضى بطرد أوجلان ألزم السلطات السورية أيضا بقطع علاقتها بحزبه، وإلى التعاون مع الأتراك ضده. هذه حرمها من رافعة نفوذ في الوسط الكردي السوري. ومنذ حرب الخليج الثانية عام 1991 والعلاقات الوثيقة بين كرد العراق والأميركيين أخذت تتدهور قيمة المنفذ السوري. وتحققت قفزة نوعية في هذا التدهور إثر احتلال العراق عام 2003 وظهور تعارض واضح في المصالح بين كرد العراق والسلطات السورية. هذا بدوره أفقد السلطات السورية أحد مفاتيح نفوذها المحلية.

واليوم يعرض مقربون من حزب العمال الكردستاني الترك نزوعا كرديا مطلقا، مفرط التمركز حول الذات الكردية ومرشحا بقوة لسياسة القطيعة مع مجتمعهم السوري. وتماهي أكراد سوريين مع كردستان العراق قوي جدا اليوم أيضا، وهي تمثل مركزا كرديا تنشد الأنظار إليه وتهفو إليه أفئدة الجمهور الكردي السوري الواسع، ويلجأ إليه مرحبا بهم كرد سوريون لا يستقر بهم المقام في وطنهم سورية.

كذلك لم تظهر السلطات السورية التنبه الحصيف إلى ضرورة تأمين تمثيل ذي صدقية لمواطنيها الأكراد، ولم تعمل على معالجة أي من الملفات الأليمة القديمة. هذا بينما تحرص على ضرب وتفكيك «إعلان دمشق»، الائتلاف المعارض الذي يضم تنظيمات عربية وكردية.

وفي حين تسجل أوضاع كرد تركيا والعراق تحسنا مضطردا، يتابعه إخوانهم السوريون باهتمام، تتجمد أوضاع الكرد السوريين، بل تتراجع.

ولعل ما حدث في شهر آذار/مارس 2004 من صدام بين السلطات وجمهور كردي في القامشلي نذير مبكر بمسار القطيعة المتنامية. وقتها سقط نحو 30 كرديا برصاص حكومي، وهذا أكبر عدد على الإطلاق يسقط من الكرد السوريين منذ نشوء الكيان السوري قبل أزيد من تسعين عاما. وبتصاعد منذ ذلك الوقت، يتفاقم التمييز الجوهري ضدهم (عدم الاعتراف بوجودهم) بتمييزات تفصيلية يومية تؤجج الشعور لديهم بالغربة والاستبعاد والمرارة، بل العدواة حيال محطيهم العربي. ولعل من آخرها المرسوم 49 لعام 2008، الذي يحول محافظة «الحسكة» (أقصى الشمال الشرقي) إلى منطقة حدودية بالكامل، ما يقتضي رهن أعمال البناء والسكن فيها، بموافقات من جهات حكومية وأمنية وحزبية متنوعة، لا تبدي عطفا يذكر على هذا القطاع من الشعب السوري.

وفيما عدا الاستمرار في التمييز وترك المشاعر السلبية تغلي في الصدور لا يبدو أن لدى السلطات السورية سياسة كردية من أي نوع. هناك مشكلات وأدواء، وهناك غياب للمعالجات، بل غالبا معالجات تفاقم الداء. هذا شيء يستحيل فهمه من وجهة نظر المصلحة الوطنية السورية. وهناك بالفعل عناصر أزمة كردية تتجمع في سورية، هي أولا وقبل كل شيء عناصر أزمة وطنية. والتأخر في معالجة عناصر الأزمة الخطيرة يجعلها أكثر خطورة، ولو بدت المياه الكردية، والسورية العامة، راكدة اليوم.

* كاتب سوري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء