هو بحد ذاته استثناء تاريخي في مسار تطور النخبة الحاكمة في عصر المماليك، وسيرته في هذه النخبة هي أيضاً استثناء آخر.
فخلافاً لما درج عليه الأمر من اقتسام سلطات الحكم وصلاحياته فيما بين أرباب السيوف من المماليك وأرباب الأقلام من المتعممين وموظفي الدواوين، جاء صاحبنا إلى صفوة الحكام من صفوف الباعة، قاطعاً المسافة بين حانوته بالقاهرة وقلعة الجبل في أقل من ثلاث سنوات. إنه محمد بن محمد بن أحمد بن محمد المصري الأصل والمولد الشافعي النحاس المكني بأبي الخير . نشأ أبو الخير النحاس تحت كنف والده وحفظ القرآن الكريم، وتعلم من والده وجده صناعة عمل النحاس ومهر فيه واتخذ له دكانا بسوق النحاسين قرب باب زويلة. وشرع أبو الخير محمد في الاتجار بالنحاس وأخذ في حانوته وأعطى حتى صار بينه وبين الناس معاملات ومشاركات أدت في النهاية إلى تحمله الديون. وساقت إليه الأقدار الشيخ أبا العباس الوفائي فأقرضه حتى صارت عليه حمل مستكثرة من الديون وكان الستر مسبولاً بينهما أولاً ثم وقعت وحشة بينهما، فأخذ أبو العباس يطالبه بأداء ما عليه ، وأبو الخير يماطله وتملك الشيخ الوفائي اليأس من استخلاص أمواله ودفعه ذلك إلى الإلحاح على أبي الخير في طلب حقه» والدعوى عليه بمجالس الحكام والتجرؤ عليه والمبالغة في إنكائه بحيث إنه ادعى عليه مرة عند الأمير سودون السودوني الحاجب بعد أن أخرجه من السجن محتفظاً به فضربه سودون المذكور علقتين في يوم واحد ودام هذا الأمر بينهما أشهر بل وسنين». وأعمل النحاس فكره للخلاص من مطالبة أبي العباس بعد أن صار لا يرق لفقر أبي الخير وإفلاسه وهداه تفكيره الجهنمي إلى الباب الذي فيه كل الهلاك للوفائي. ففي هذا العصر كانت وشاية بسيطة للسلطان عن إخفاء أحد المماليك المغضوب عليهم أو المتوفين لبعض ذخائرهم وثرواتهم لدى بعض التجار، كانت هذه الوشاية كفيلة بأن ينتقم السلطان تحت زعم أنه يملك المملوك وماله . وفتح أبو الخير هذا الباب واسعاً على غريمه الوفائي، بعد أن توصل إلى السلطان الظاهر جقمق وأخبره أن الذي بيد أبي العباس من المال «إنما هو من جملة ذخائر الصفوي جوهر القنقبائي الخازندار وقد بقيت عند أبي العباس بعد موت جوهر». فما كان من السلطان إلا أن أوكل للنحاس طلب «حقه» من أبي العباس. عندما وقع ذلك في عام 846هـ صار أبو الخير مطالباً بعد ما كان مطلوبا، واجتهد في إثبات دعواه ضد الوفائي وخدمه السعد في إظهار بعض موجود جوهر عند أبي العباس فحسن ذلك في بال السلطان ونبل أبو الخير في عينه ووكله بعد مدة في جميع أموره. وبسبب ذلك كثر تردد النحاس إلى السلطان «وحسن حاله من لبس القماش وركوب الحمار واكتسى كسوة جيدة» وتجاوز نطاق خدماته للظاهر جقمق مطالبة الوفائي بثروات جوهر القنقبائي «فمشى أمره وظهر عند العامة اسمه واستمر على ذلك إلى سنة ثمان وأربعين ، فركب فرسا من غير لبس خف ولا مهماز، وصار يطلع إلى القلعة في كل يوم مرة بعد نزول أرباب الدولة من الخدمة ويتقاضى أشغال السلطنة». كل ذلك وأعيان الدولة لا تلتفت إليه، ولا يعاكسه أحد فيما يرومه، لعدم اكتراثهم به وإهمالهم أمره، لوضاعته حتى استفحل أمره بهذه الفعلة وطالت يده في الدولة. وحدثته نفسه بأن ينتقل إلى الخدمة في دواوين الدولة بصفة رسمية ليصعد إلى القلعة مع الصاعدين في أوقات الخدمة وليس بعدها كالمتطفلين. تولى أبو الخير النحاس نظر الجوالي في 14 رمضان من نفس العام عن برهان الدين بن الديرير، وفي 21 ربيع الأول عام 852 هـ استقر أبو الخير النحاس في نظر الكسوة عوضاً عن السفطي وعزل السلطان السفطي عن قضاء الديار المصرية في نفس اليوم وبعد عشرين يوما تولى النحاس نظر البيمارستان المنصوري الذي كان لغريمه السفطي. وخشي أبو الخير أن يعود السفطي الذي اشتهر بالسلب لكثرة ما يطلب من الناس إلى وظائفه التي استقر بها بعد ما أفلت سالما من ادعاء البعض عليه بأنه تناول خمسة آلاف وخمسمائة دينار من الكسوة الشريفة، إذ قام بتسديد المبلغ كاملاً وكافأه السلطان بخلعة خضراء. فشمر النحاس عن ساعد الجد، وأخذ يوغر صدر السلطان على السفطي مدعياً عليه بأنه قام بتهريب بعض ثروته وأودعها خفية لدى آخرين مما دفع جقمق إلى الحط على السفطي وبالغ في ذلك بحيث إنه قال «هذا ليس له دين وهذا استحق القتل بما وقع منه من الأيمان الفاجرة بأن ليس له مال ثم ظهر له هذه الجمل الكثيرة وقد بلغني أن له عند شخص آخر وديعة مبلغ سبعة وعشرين ألف دينار». وظهر من كلام السلطان أنه يريد أخذ الوديعة ومعها روح السفطي وهو ما أثار هلع ورعب ولي الدين السفطي. ومن السفطي إلى أعوانه انتقل النحاس ليصفيهم ويبعدهم عن مواقعهم المؤثرة حتى لا يكونوا عوناً عليه، فمازال بمحتسب القاهرة (يدعى العجمي الخراساني ) حتى عزله السلطان وأخرجه من القاهرة ثم جاء بأحد أصحابه وهو علي ابن إسكندر ليتولى حسبة القاهرة في 4 جمادي الآخرة 853 هـ.
توابل
شخصيات من التاريخ أبو الخير النحاس... من صفوف الباعة إلى صفوة الحكم
25-09-2008