العلم والفتوى والفوضى
يحصل كثيرا أن يلاذ بالدين من تشويش كاسح وفوضى قيمية وروحية متأججة، وحيال هذا الوضع لا يبدو «العلماء» معنيين بغير المطالبة بسلطة مطلقة لا تنال، ولا يمكن أن تزدهر في ظلها إن تحققت لهم غير الفوضى الروحية والفكرية والأخلاقية.دعا العالم المصري الشهير أحمد زويل أخيرا إلى منع الإفتاء في القضايا العلمية، مسوغا دعوته بأن «تدخل الفقهاء في القضايا العلمية من الممكن أن يعرقل تقدم العلم». كلام زويل الفائز بجائزة نوبل للكيمياء عام 1999 يتوافق مع منطق تقدم العلوم: تتقدم بقدر ما تكون مستقلة، لا تتحكم بها شرعية خارجية، ولا تلتزم بغير بروتوكولات المعرفة العلمية ومناهجها. العلم لا يتقدم إن كان تابعا، سواء كانت التبعية لإيديولوجية حديثة أو للدين أو لسلطة سياسية.
بيد أن دعوة زويل ووجهت فورا باحتجاجات من «العلماء»، أي الفقهاء والمفتين. قالوا إن الفصل بين مجالي الفتوى والقضايا العلمية «بتر وقطع لحاكمية الشرعية على الحياة» ولـ«هيمنتها» عليها، وأضاف متكلم باسمهم إن «معنى ذلك أن نجعل العلم يتجه اتجاها عقلانيا محضا»! ثمة مشكلتان خطيرتان في هذا الطرح: الأولى هي انفصامه التام عن عمليات إنتاج العلم الفكرية والمؤسسية وغربته المطلقة عنها. يريد السادة الفقهاء أن يكون لهم القرار الحاسم والحاكم في شأنها وأن يهيمنوا عليها مع افتقارهم إلى الحد الأدنى من المعرفة بمناهجها وأصولها وعقلها. لماذا إذن ينبغي أن تكون لهم الكلمة الفصل في شأنها؟ وبأي حق؟ ومن أين لهم الأهلية للحكم في قضايا علمية، يحتاج المرء إلى تأهيل خاص ومعقد كي يحيط بجوانب منها؟ لديهم جواب مهيب: الشريعة إلهية، والإلهي حاكم على البشري ومتفوق عليه إلى ما لا نهاية. يجرون النقاش إلى مجالهم في قضية ليست من مجالهم. وراء إقحام الباري في القضية ليس ثمة غير إرادة السلطة واحتكار الهيمنة. حاكمية الشريعة هي في الواقع حاكمية الفقهاء الذين ينطقون باسم الشريعة، وهيمنة الشريعة تعني هيمنتهم هم، وبتر حاكمية الشريعة يعني البتر الخطر لحاكميتهم. لكن يبدو أن السادة العلماء لا يعترفون أصلا بأن هناك قضايا ليست من مجالهم. كل شيء من مجالهم. لا يزالون يجعلون من «العلم الديني» العلم الوحيد أو العلم السيد، وبسعيهم إلى بسط سيادة علمهم على مجالات الحياة الاجتماعية كافة يؤسسون سلطة مطلقة، توتاليتارية بحق، لا يمكن أن يزدهر في ظلها علم ولا فن، بل ولا الدين ذاته كإيمان حي وتجربة روحية متجددة. المشكلة الثانية تنبني على ما سبق: ينكر السادة العلماء سيادة العلم، أي كونه صاحب السلطة العليا في التقرير والإبطال في مجالاته المتوسعة، من علم الفلك إلى البيولوجيا الجزيئية. من شأن هذا الإنكار أن يقزّم العلم، وله اليوم جزء من «الفضل» على الأقل في قزامته لدينا. توظيف العلوم مسألة أخرى، تنضبط بقيم المجتمع الثقافية ومنها الدين، وبقيم المعرفة العلمية وبالنقاش العقلاني المستنير في المجتمع. لكن من غير المرجح لمجتمع لا ينتج العلم أن يطور ما هو أفضل من مقاربة استهلاكية وتطفلية في مجال توظيف العلم. هذه حال مقاربة السادة «العلماء»: يريدون السيطرة على عمليات توظيف علوم لا ننتجها! على أن إنكار «العلماء» سيادة العلم أو المطالبة بحاكمية «الشريعة» و«هيمنتها» عليه، وجه واحد فحسب من وجوه تطلع العلماء على السيادة الكاملة في مجتمعاتنا المعاصرة، السيادة السياسية بما فيها ممارسة الإكراه وتعريف الأمة، والسيادة العقلية بما فيها التشريع لكل علم ممكن، والسيادة الأخلاقية بما فيها احتكار تقرير الخير والشر، والسيادة الجمالية بما فيها تقرير ما هي الفنون الصحيحة والفنون غير الصحيحة. هل يمكن عزل أزمة الثقافة العربية اليوم عن هذا الطموح المفرط الذي لا نظير له في عالم اليوم؟ لكن هل يقود استقلال العلم والفن والسياسة والأخلاق... إلى إبطال الدين؟ ليس بأي حال من الأحوال. بل إلى استقلال الدين ذاته، وتحرره من عبء مجالات لا يسعه تحمل وزرها ورعاية تطورها. ولنلاحظ قبل كل شيء أن السياسة والعلم والفن والأخلاق مستقلة فعلا عندنا (بتفاوت) عن الدين، لكننا نفتقر إلى ثقافة الاستقلالية، أعني الوعي الذاتي بتمايز هذه المستويات واستقلال كل منها بمنطق ذاتي خاص. ما يهيمن في ثقافتنا ليس الإيمان بحال، بل التشويش والاختلاط العام الذي يحصل أن ينال ختم استحسان من القائمين على السلطة الدينية. يحصل كثيرا أيضا أن يلاذ بالدين من تشويش كاسح وفوضى قيمية وروحية متأججة، وحيال هذا الوضع لا يبدو «العلماء» معنيين بغير المطالبة بسلطة مطلقة لا تنال، ولا يمكن أن تزدهر في ظلها إن تحققت لهم غير الفوضى الروحية والفكرية والأخلاقية. والحال أن الدين هو أول من يتضرر من هذا الواقع. بلى، ربما تنتشر الرموز الدينية في المجال العام، وربما يرتفع صوت ناطقين باسم الدين، لكن اختلاط المعايير وفوضى القيم وتشويش النفوس واضطراب القلوب هو البيئة المناسبة لانتشار الفساد والازدواجية الأخلاقية الفتاكة والتمزق الاجتماعي والعنف والقسوة واللامبالاة بالصالح العام من جهة، والتعصب الديني قسوة القلب والاستعداد لممارسة العنف باسم الدين من جهة أخرى. وليست هذه السمات الأخيرة أقل فتكا بالدين كإيمان وكتجربة حية للروح من السمات الأولى.يتعين أن ندرك، ختاما، أن الدفاع عن استقلال العلوم هو ذاته ما يؤسس للدفاع عن استقلال الدين والتجربة الدينية. ولا تكون العلوم والفنون والسياسة والأخلاقيات بخير إلا إذا كانت مستقلة، فإن لم تكن بخير فلن يكون الدين بخير أيضا. إن حلم السلطة الدينية المطلقة ليس خطرا على مجتمعاتنا وثقافتنا فقط، إنما هو خطر على الإسلام أيضا.* كاتب سوري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء