إن إجبار الناس على تبني موقف ما لا يسبغ الشعبية عليه، بل هو مثال للنفاق والتزلف أمام العالم، فإذا اتجه الناس إلى الاحتفال سراً نتيجة إلغاء الحفلات العامة، فإن رسالتنا للعالم سيكون ظاهرها التضامن وباطنها الغناء والرقص.

Ad

بعد أن قرر منظمو حفلات فبراير إلغاءها، إما بدافع التضامن الصادق مع غزة المنكوبة أو امتثالاً لصراخ بعض النواب والكتّاب، فليسأل كل نائب وكاتب حاول سلب المنظمين حرية الاختيار بين إقامتها وإلغائها عبر فرض منع حكومي عليها، ليسأل نفسه: ما الهدف من المطالبة؟ وهل سيعبر إلغاء الحفلات عن موقف التضامن بصدق لو كان بحظر حكومي وليس خياراً ذاتياً من قبل منظميها؟

إن الرسالة المراد إرسالها إلى أهالي غزة والعالم يفترض أن تكون شعبية، وتعتمد قوتها على ما إذا كانت رغبة شعبية أم لا، وتتحقق مصداقيتها بتعبير الناس عنها بعفوية، والرغبة الشعبية والعفوية الصادقة لا تتحققان دون ضمان حرية الاختيار للناس، فلمنظمي الحفلات حرية اختيار إقامتها أو إلغائها، وللجمهور حرية اختيار حضورها أو مقاطعتها، أما مطالبة النواب بتدخل الحكومة فهي محاولة لمنع الناس من الاحتفال ووصاية على مشاعرهم، أي فرض التضامن والتعاطف عليهم، أو على الأقل فرض طريقة التعبير عنه، الأمر الذي يسلب التضامن شعبيته، ويفرغ مشاعر التعاطف من عفويتها، مما يفقد الرسالة مضمونها وفاعليتها.

في قضية رسوم الكاريكاتير قصَد الناس أسواقاً أخرى لشراء المنتجات الدنماركية عندما قررت الجمعيات فرض مقاطعتها عليهم، ولم يَصْــدق النواب آنذاك في دعواتهم للمقاطعة عندما ظلوا يداومون في مبنى مجلس الأمة الذي صممه مهندس دنماركي، وبالمثل لن يتردد الناس هذه المرة في الاحتفال بطريقتهم الخاصة في الفنادق والمخيمات والشاليهات والمنازل، ولعل صور احتفالات رأس السنة الميلادية التي تصدرت الصحف الأسبوع الماضي تساوي ملايين الكلمات... ويا سلام على الرغبة الشعبية.

ولتعلم درس من التاريخ المعاصر، يصادف هذا الأسبوع الذكرى الخمسين للثورة الكوبية، ومنذ حدوثها عاشت أميركا وهم مقاطعة كوبا، وعاش نظام كاسترو وهم محاربة الرأسمالية، ولكن نصف قرن من الوهم لم يكن كافياً لإسباغ العفوية الشعبية على الموقفين، فالمقاطعة التي فرضتها القوانين الأميركية على الناس لم توقف استيراد السيجار الكوبي وتجارته في أميركا، ولم تمنع سياسات كاسترو المناهضة للرأسمالية الكوبيين من التمتع بمنتجاتها كالهواتف النقالة والإلكترونيات وغيرها، ولم توقف تدفق الكوبيين إلى شواطئ ميامي بحثاً عن العيش الكريم في رحاب الرأسمالية الأميركية.

إن إجبار الناس على تبني موقف ما لا يسبغ الشعبية عليه، بل هو مثال للنفاق والتزلف أمام العالم، فإذا اتجه الناس إلى الاحتفال سراً نتيجة إلغاء الحفلات العامة، فإن رسالتنا للعالم سيكون ظاهرها التضامن وباطنها الغناء والرقص، إذن لنكن صادقين مع أنفسنا قبل مواجهة العالم، فتنوع مشاعر الكويتيين وطرق تعبيرهم عنها لا ينقص من إنسانيتهم، ومادام الإلغاء جاء برغبة المنظمين فهذا حقهم وحريتهم بطريقة تعبيرهم، بينما لو جاء بحظر حكومي لكان خداعاً لأهالي غزة والعالم بإجماع مزور على تضامن زائف.

Dessert

لا يفوت التيار الديني أي فرصة لإظهار انتهازيته المعهودة، فنوابه وكتّابه يبررون مطالبتهم بإلغاء الحفلات بالتضامن مع غزة، وكأنهم لا يمانعون إقامتها في أوقات أخرى... يا الله من فضلك، طالما هم يرون أن الاحتفال والفن والموسيقى حرام ولهو ومجون، فالأجدر بهم بناء مطالبتهم على ذلك، أما إقحام غزة في النقاش فلا يعدو سوى تكسب سياسي وإعلامي على حساب معاناة أهلها، وعلى ذكر التكسب يجدر التنويه بأن تحرير غزة لن يتحقق بمنع الحفلات ورفع الأحذية أمام الكاميرات، بل بالتطوع وحمل السلاح، فهذا طريق الجهاد مفتوح... «دربكم خضر... والمواصلات علـيّ».