في ربيع عام 1923 أسس رجلٌ مولع بالموسيقى يُدعى ماكنزي مجلة موسيقية على غرار مجلات الأدب، تُعنى بالمتابعة النقدية للإصدارات الموسيقية الجديدة. المجلة تُدعى Gramophone تيمناً بالجهاز الموسيقي واسطوانتِه السوداء، التي تدور 79 دورة في الدقيقة الواحدة، وتستوعب مادة موسيقية قد لا تتجاوز الدقائق الخمسة للوجه الواحد، حتى أن الأوبرا الواحدة قد تحتاج إلى أربعين وجه لاستكمالها.

Ad

في عام 1948، وحين صدرت الاسطوانة المتقدمة البديلة (LP 33 دورة في الدقيقة) حدثت قفزة نوعية على مستوى النشر الموسيقي ومجلتِه بالضرورة، صارت الأسطوانة الواحدة تضم أكثر من عمل موسيقي، والأوبرا تكتفي بثلاث اسطوانات أو أربع. في تلك المرحلة، وفي الخمسينيات من بعدها، كان اسم بغداد يرد في قائمة توزيع المجلة العالمي داخلها، أسوة بالعواصم العربية الأخرى الساعية إلى الأمام: القاهرة، بيروت. كان الراحل نجيب المانع يحدثني عن مجلة غراموفون في مكتبات البصرة أو بغداد، ويحدثني عن متابعته، وحفنة ممن يعرف من مثقفي البلد، لأعدادها شهراً شهراً، وكيف يذهب على هدى آراء نقادها إلى مكتبات بيع الاسطوانة لشراء المستحسنِ من الإصدارات الجديدة، عزفا أو غناء. تماماً، كما يحدث في لندن.

كنتُ، أنا ابن الجيل الذي أعقبَ جيل نجيب، أذهبُ في أواخر الستينيات إلى محل الأورزدي باك، لأقلب في قسم الموسيقى الاسطوانات الكلاسيكية، واكتفي بالتقليب. فسعر الاسطوانة آنذاك كان يكلف ديناراً، والدينار مصروف أكثر من ثلث أيام الشهر. كنتُ ابن عائلة بغدادية متواضعة الحال، وكنت أراقب بدء زوال الطبقة الاجتماعية الوسطى، على أثر ثورة تموز، دون وعي بالتأكيد للمخاطر التي تترتب على ذلك. كنت أراقب انحسار المثقف الذي يفخر بمدنيته وتحضّرِه بمقدار ما يلاحقُ منجزاتِ الغرب المتمدّن المتحضر، وأراقب بزوغ نجم المثقف الذي يتشكك بكل ما يتمتع به الغرب، ولا يتردد في التنافس معه، والتعالي عليه، وما من شك أن مراقبتي كانت مصحوبة بمعرفة غامضة ترى أنَّ حب الموسيقى الكلاسيكية سيزول مع زوال الأول، وسيحلّ بدله استنكار وشجب للموسيقى الكلاسيكية مع حلول الثاني، الذي أحكمت مفاهيم الثورة القبضة على كيانه. الأول ألِفَ حلمَ الوطن المُقبلِ باعتباره «الشباب والرجاء، والجمال والبهاء»، والثاني ألف حلمَ الوطن باعتباره «وطنا تشيّده الجماجم والدم/ تتهدم الدنيا ولا يتّهم».

حتى الذي لم تُسعفه الفرصُ المادية أو التعليمية أو اللغوية من الجيل الأول لمتابعة الموسيقى إصغاءً، كان يتابعها قراءة بالعربية، عبر قراءة أساتذته: يحيى حقي، توفيق الحكيم، حسين فوزي، إبراهيم زكريا، فؤاد زكريا...».

لم تكن المجلة، التي كنت أحرص على شرائها في لندن، دليلي للإصدارات الموسيقية الجديدة بنية شرائها. لأنني كنت في السنوات الأولى لا أقدر ببساطة على شراء الاسطوانة، كنت أكتفي بتسجيلاتي المختارة على الكاسيت الرخيص نسبياً. إلى أن اهتديت في لندن الواسعة إلى المكتبات التي تكرس جزءاً من أركانها لبيع الاسطوانات المستعملة، أو الاسطوانات المخفّضة، كنت أقرأ المجلة بمشقة من يدخل مملكة الوهم، بنية قراءة رموزها والتكيف معها.

قراءةُ المجلة أصبحت مع الأيام إدماناً سحرياً، متعة لذاتها، متابعة ملوّنة للمشهد الموسيقي المحتدم: كم موسيقي في المشهد، كم أوركسترا، كم مايسترو، كم عازف منفرد، كم مغنٍ، كم مجموعة إنشاد، كم آلة موسيقية، كم دار أوبرا وقاعة عزف، كم فن في التأليف الموسيقي، كم عمل سيمفوني، كم كونشيرتو، كم عمل كورالي، كم رباعية، كم ثلاثية، كم سوناتا...؟ وكنت أطرب للتنوع، وأطربُ حين أنفرد بواحد من هؤلاء، أُتابعه وألاحقه، حتى أروّضه لقدرتي على استيعابه، كنت أسمع صوتَ الموسيقى في حين تنسج المجلةُ شبكةَ الخلفية الواسعة من المعلومات. النقاد يقولون ما أفهم وأستوعب، ويقولون مالا أفهم ولا أستوعب، حين ينشغلون بالجانب التقني. وكنت أطرب في الحالتين.