منذ أصدر السيد لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرته بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير، بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، التي ارتكبت في دارفور، والعالم يطالع ردود فعل الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، وردود فعل منظمات مجتمعه المدني، فضلا عن رؤسائه وحكوماته وبرلماناته، في دهشة بالغة من بعض البيانات والتصريحات التي أعلن فيها أصحابها عدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الرئيس السوداني، لأن السودان ليس طرفا في اتفاقية روما المتعلقة بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
* دهشة العالم من بعض ردود الفعل العربيةولعل مبعث الدهشة التي أصابت المجتمع الدولي هو بيانات وتصريحات سابقة لهذه المنظمات والحكومات والبرلمانات، تطالب هذه المحكمة بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، مع أن إسرائيل ليست طرفا كذلك في هذه الاتفاقية، إذ يرى العالم في هذا التناقض أن العرب يستخدمون المعايير المزدوجة في التعامل مع قضاياهم.وما كان أغنى هذه التصريحات والبيانات عن الخوض في اختصاص المحكمة، التزاما بمواقف أصحابها من هذا الاختصاص بالنسبة إلى حكام إسرائيل، ولدى الأمة العربية من فقهاء القانون الدولي وجهابذته، ومن فقهاء القانون الجنائي وجهابذته، ما تستطيع به النيل من مذكرة المدعي العام وردها على أعقابها، من دون الوقوع في مثل هذا التناقض.* خطأ آخر لبعض البيانات والتصريحاتولم يكن التناقض السابق هو الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه هذه البيانات والتصريحات، بل إنها وقعت في خطأ أكبر حين وصفت مذكرة المدعي العام، باستخدام المعايير المزدوجة في التعامل مع الرئيس السوداني، في الوقت الذي يتم التغاضي فيه عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي يرتكبها حكام إسرائيل.ويتمثل خطأ هذه البيانات والتصريحات من هذه الناحية في أنها ظلمت الرئيس البشير، من حيث أرادت أن تدفع عنه، لأن وصف مذكرة المدعي العام باستخدام المعايير المزدوجة، يضع الرئيس البشير وحكام إسرائيل في وضع واحد متساو، ولا مجال لهذه المقارنة بين حاكم السودان الذي يلاحق في بلده مجرمي الحرب، وحكام إسرائيل الذي يعترفون بجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبونها في حق الشعب الفلسطيني في زهو وخيلاء، وتحت سمع العالم كله وبصره، لا مجال لهذه المقارنة، لأن المقارنة لا تكون إلا بين متساويين.* المحكمة كانت بارقة أمل للشعوب المستضعفةولعله من المفيد في هذا السياق أن نؤرخ لهذه المحكمة، في أن إنشاءها كان بارقة أمل للشعوب التي عانت ويلات الحروب والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، حيث أعلنت ديباجة الاتفاقية التي أقرت نظام روما الأساس لهذه المحكمة في 17 يوليو سنة 1998، أنها تضع في اعتبارها «أن ملايين الأطفال والنساء والرجال قد وقعوا خلال القرن الحالي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها، هزت ضمير الإنسانية بقوة. وأن هذه الجرائم الخطيرة تهدد السلم والأمن والرخاء في العالم». * الاختصاص الأصيل للقضاء الوطنيكما أكدت هذه الديباجة أن «أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره يجب ألا تمر من دون عقاب، وأنه يجب مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال، من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني، وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي»وتؤكد الديباجة ذلك مرة أخرى بقولها: «إن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية».* المحكمة الجنائية الدولية قضاء احتياطيوتضيف الديباجة: «نؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية».وتردد الاتفاقية هذه المعنى في الأحكام التي اشتمل عليها النظام، فتنص في المادة (1) على أن «تكون ولاية المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية».كما تنص المادة (17) على عدم قبول الدعوى في حالة:أ- إذا كانت تجري التحقيق والمقاضاة دولة لها ولاية عليها، ما لم تكن الدولة حقا غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك».ب- إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها، وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني، ما لم يكن القرار ناتجا عن عدم رغبة الدولة، أو عدم قدرتها حقا على المقاضاة».ج- إذا كان الشخص المعني قد سبق له أن حوكم على السلوك موضوع الشكوى، ولم يكن من الجائز إجراء محاكمته أمام المحكمة في ما يتعلق بنفس السلوك». كما تخول المادة (18) من النظام الأساسي للمحكمة، الدفع بعدم اختصاصها لكل من المتهم أو الشخص الذي صدر بحقه أمر بإلقاء القبض أو أمر بالحضور، والدولة التي لها اختصاص النظر في الدعوى لكونها تحقق أو تباشر المقاضاة في الدعوى، أو الدولة التي يطلب قبولها باختصاص المحكمة من غير الدول الأطراف في الاتفاقية».ومؤدى نصوص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، أن قضاءها ليس قضاءً أصيلا في هذه المحاكمات، ولا قضاءً بديلا عن القضاء الوطني، بل هو قضاء احتياطي ومكمل للقضاء الوطني، فلا تبسط المحكمة الجنائية الدولية ولايتها على الجرائم التي تدخل في اختصاصها، إلا في حالة عجز أو عدم قدرة أو عدم رغبة الدولة ذات الولاية على هذه الجرائم في عقاب مرتكبيها. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قل ودل: المحكمة الجنائية الدولية في ظل عدالة غائبة 1
11-08-2008