في الحديث الشريف «لأن يهدي الله على يديك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت»، البشرية الحائرة بحاجة إلى هداية السماء، وكذلك المسلمون، خصوصا من انزلق منهم إلى دروب التطرف والعنف، فهم الأحوج إلى الهداية في القول والسلوك، ومن هؤلاء الذين اهتدوا إلى طريق الرشد وأعلنوا تراجعهم عن أفكارهم الخاطئة، السيد إمام عبدالعزيز الشريف، المعروف في أوساط الجهاديين باسم «الدكتور فضل» أو «الشيخ عبدالقادر بن عبدالعزيز» الزعيم السابق لجماعة تنظيم «الجهاد» المصرية (1978– 1993) والمنظّر الشرعي للجماعات الجهادية، الذي وضع كتابين، هما «العمدة في إعداد العدة» و«الجامع في طلب العلم الشريف» وأصبحا «دستور المجاهدين».

Ad

لقد كسبت الساحة الدينية الإعلامية بانقلاب هذا «المنظّر الشرعي» على أفكاره السابقة، وعلى طروحات الجهاديين والقاعديين، كسباً كبيراً، خصوصاً أنه كتب عن أناس عايشهم عن قرب، وتنقل وهاجر وجاهد وسُجِن، فتراجعه يعد تراجعاً عن تأمل وتبصر وإدراك لما انتهى إليه الفكر الجهادي من مآسٍ للمجتمعات الإسلامية. لقد أصدر د. فضل قبل عام مراجعة فقهية باسم «وثيقة ترشيد العمل الجهادي» أحدثت آثاراً وتداعيات كثيرة، وكانت محطة مفصلية في تاريخ الحركات الجهادية، مما جعل «أيمن الظواهري» الزعيم الحالي لتنظيم «الجهاد» والمتحالف مع زعيم القاعدة «بن لادن» ينزعج كثيراً، ويسارع إلى الرد عليه بكتاب «التبرئة»-تبرئة أمة السيف والقلم من منقصة الخور والضعف- وقد تضمن الكتاب هجوماً عنيفاً على د. فضل، واتهاماً لمبادرته بأنها تمثل ثمرة ما تريده المخابرات الأميركية، والظواهري في هذا الكتاب يتبرأ من تراجعات د. فضل، وهذا دفع الأخير لأن يرد بكتاب جديد يكشف فيه جوانب جديدة عن علاقته بالظواهري، بعنوان «مذكرة التعرية لكتاب التبرئة» نشرته الشرق الأوسط وصحف مصرية على حلقات أخيراً.

هذا الكتاب الجديد «مذكرة التعرية» يعد- في نظر المراقبين- أقوى نقد شرعي لأركان فكر «القاعدة»، بل أهمه في تاريخ المراجعات الفكرية للجماعات الجهادية، وقد فكك هذا الكتاب البنية الفكرية لـ«للقاعدة» -الدستور الجهادي- الذي انطلقت على أساسه عمليات «القاعدة» العسكرية والانتحارية.

دعونا نستعرض أبرز أفكار هذا الكتاب-القنبلة:

يرى المؤلف أن «القاعدة» تمثل مذهباً فاسداً منحرفاً، يسميه «مذهباً إجرامياً دموياً» لتأصيل نظرية «الإسراف في سفك الدماء بالجملة» ويقول: إنها نشأت في أوائل التسعينيات وتضخمت بنهاية التسعينيات عندما التقت إرادتا «بن لادن» و«خالد شيخ محمد» على قتل أكبر عدد ممكن من الأميركان، وترجم ذلك عملياً في تفجيرات «2001-9-11» للقتل بالجملة، دون تمييز بين مدنيين وعسكريين.

وتستند هذه النظرية -فقهياً- إلى الركائز الأربع الآتية:

أولاً: الترويج الإعلامي والفقهي لفكرة أن «أميركا سبب كل مصائب المسلمين»، وحشد أكبر عدد من الأنصار لضرب أميركا واستصدار فتاوى من مشايخ ترى «وجوب جهاد الأميركان وإخراجهم من بلاد الحرمين وفلسطين وسائر بلاد المسلمين».

ثانياً: الاحتيال على بيعتهم للملا محمد عمر، الذي اشترط عليهم وجوب استئذانه في أي عمل جهادي، وذلك ببدعة «محلية الإمارة» أي أن «بن لادن» غير ملزم باستئذان الملا عمر في ضرب أميركا، إنما فقط في حدود أفغانستان لا خارجها.

ثالثاً: إلغاء كل الثوابت الشرعية المستقرة التي تمنع القتل بالجملة، ومن ذلك:

أ‌. قتال العدو البعيد «أميركا» أهم من العدو القريب.

ب‌. التكفير والقتل على «الجنسية» لأنها دليل ولاء وانتماء ورضا بالقوانين في بلاد الكفر.

ت‌. جواز قتل كل من يدفع الضرائب للكفار لأنه مقاتل بماله.

ث‌. يجوز قتل «الترس» المسلم «مطلقاً» كما يجوز قتل المسلمين المخالطين بالكفار «مطلقاً».

ج‌. مبدأ المعاملة بالمثل «مطلقاً»، أي من دون تمييز بين الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين.

ح‌. تأشيرة دخول المسلم لبلاد الكفر ليست عقد «أمان» فيجوز له قتلهم، وحتى لو كانت «أماناً» فيجوز نقضه.

خ‌. تأشيرة دخول السياح بلاد المسلمين ليست «أماناً» لهم من القتل والخطف.

د‌. كل من ينتقد «القاعدة» يعد مثبطاً عن الجهاد وخادماً للمصالح الصليبية الصهيونية.

رابعاً: ترى «القاعدة»... «أنه لا خيار أمام المسلمين إلا القوة» فكل الشروط والموانع للجهاد ساقطة، وهذا الواقع الفاسد لن يتغير باللين والمسالمة بل بالقوة، كما يقول الظواهري في كتابه، وأي خيارات أخرى هي «سموم العجز والشلل التي تبثها وثائق أمن الدولة بإشراف سادتهم الأميركان».

هذه هي الركائز الأساسية في فكر «القاعدة» التي تعد دستوراً شرعياً لها ولأتباعها في كل مكان، وبموجبها تنطلق العمليات التفجيرية التي تقتل أكبر عدد ممكن من الناس من غير تمييز بين الأطفال والنساء والمدنيين.

لقد تمكنت «القاعدة» من اختراق كل الحواجز الدينية والأخلاقية وانتهكت كل المقدسات، فلا يتورع أتباعها من تفجير أنفسهم في مسجد أو مستشفى أو مجلس عزاء أو جنازة، فضلاً عن محطة ركاب مكتظة بالعمال الكادحين أو مطعم شعبي يغص برواده من البسطاء، كما لا يراعي «القاعدة» حرمة شهر رمضان أو غيره، وآخر الأنباء، مقتل «10» إثر تفجير في مسجد شيعي في بغداد وهجمات بومباي التي أودت بالعشرات من القتلى والجرحى، والتي تعد الأكثر دموية منذ 2001، وهي تحمل بصمات وملامح «القاعدة»، لأن قتل أكبر عدد ممكن من البشر دون حرمة مكان أو زمان، هو الأسلوب المميز لـ«القاعدة» من غير منافس.

لنتأمل الآن ردود د. فضل على ركائز «القاعدة»:

1- القول بأن «أميركا واليهود، هم سبب مصائب المسلمين» ظاهر البطلان -قرآنياً- لأن القرآن يقرر أن مصائب المسلمين من أنفسهم وليست بسبب أميركا «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم»، و-نبوياً- في الحديث القدسي «إن العدو الكافر لا يتسلط على المسلمين إلى بعد فسادهم من داخلهم» (على حد قول د. فضل) و-تاريخياً- الذي أضاع فلسطين هم العرب أنفسهم، والذي أدخل أميركا إلى أفغانستان «بن لادن» والذي أدخل أميركا إلى بغداد، خيانة كبار الضباط، والذي احتل الكويت هو العراق، والذي يقتل السودانيين في دارفور هم السودانيون أنفسهم تماماً كما يفعل اليمنيون ببعضهم.

2- حصر الخيارات المشروعة للمسلمين مع أعدائهم في خيار القوة فقط، كالطبيب الجاهل الذي لا يعرف من العلاجات إلا دواء واحداً لجميع المرضى، فلأن كثرة سقوط الضحايا بين يديه، والنظر في الشروط والمواقع الجهادية هو الفرق بين العالم والجاهل.

3- «البدء بالعدو البعيد قبل العدو القريب» مصادم للقرآن، فقد قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار»، وقد جلبت هذه القاعدة تدمير «القاعدة» وتشريدها حتى أنهم هربوا في ثياب النساء.

4- القول إن «جنسية الدول الكافرة» دليل انتماء وولاء ورضا بالدخول تحت طاعة قوانين الكفار، يقضي بتكفير المئات من الملايين من المسلمين في الهند والصين وروسيا وأوروبا والأميركتين وإفريقيا، وهذا كلام باطل، وقد ذكر القرآن أنه قد يوجد مسلمون في دار الكفر وهم مع ذلك مسلمون.

5- القول بأن دافع الضرائب للكفار مقاتل بماله، يقضي بإباحة دماء الملايين من المسلمين وأموالهم، كالمسملين في الهند وغيرها يدفعون الضرائب لحكوماتهم، فهذه ليست مجرد أخطاء فقهية، بل تأسيس لمذهب إجرامي، يكفي في فساده قول عمر لقواده «اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب» مع كونهم من كبار دافعي الضرائب لحكام الفرس والروم.

6- أما «المعاملة بالمثل» فليست مطلقة، بل مقيدة بالثوابت الأخلاقية والإنسانية، فالمعاملة بالمثل «إلا فيما لا يجوز شرعاً» فلا يجوز شرعاً قتل الكفار من دون تمييز، فلا قتل على النساء والأطفال حتى لو قتل الأعداء نساء المسلمين وأطفالهم، فلا يحل لهم الرد بالمثل والخاص مقدم على العام.

تبقى ملاحظات ذكية وساخرة للمؤلف على أعمال «القاعدة» منها:

- أن تعبر المحيط وتذهب إلى عدوك في داره وتهدم له عمارة، فيدمر لك دولة «طالبان» فتزعم أنك مجاهد، فهذا لا يفعله إلا الحمقى.

- أينما حلت «القاعدة» حل الدمار على المسلمين، حدث هذا في أفغانستان والعراق والصومال وباكستان.

- هل قتل أهل العراق في المساجد والأسواق والجنائز ونسف منازلهم جهاد في سبيل الله؟!

- بن لادن والظواهري، لم يباليا بما جرى لأفغانستان وأهلها من القتل والخراب بسببهما، ومع ذلك لم يعتذرا لأحد وكأن الأفغان شعب من الحشرات لا قيمة لهم.

- من المعلوم أن أسرع الطرق لكسب الشعبية هي مناطحة أميركا وإسرائيل والإكثار من الكلام عن القضية الفلسطينية، ومع ذلك لم تقم «القاعدة» بعملية واحدة ضد إسرائيل- ومن عندي- وكذلك ضد إيران.

- عدد المسملين الذين تسببت «القاعدة» في قتلهم وتشريدهم يفوق بكثير عدد من قتلتهم إسرائيل.

- «طالبان» كانت تعاقب المرأة إذا خرجت كاشفة وجهها أو بدون محرم، ومع ذلك لم تحاسب لا «ابن لادن» ولا أحداً من أتباعه رغم أنهم المتسبب المباشر في الاحتلال الأميركي لبلادهم.

- فشل الحركات الإسلامية يرجع إلى إهمالها النظر في شروط الجهاد وموانعه.

وأخيراً: فما انتهى إليه منظّر الجهاديين في تشريحه للفكر الجهادي القاعدي، هو ما انتهيت إليه من أن أصل الإرهاب فهم ضال لمبدأ الجهاد.

وختاماً: يلاحظ أن المؤلف يلجأ إلى المباهلة، عدة مرات وذلك لتأكيد مصداقيتة تجاه المشككين في مراجعاته، والمباهلة طريقة شرعية في الإثبات، فيقول «اللهم إنك تعلم أني ما كتبت هذه الوثيقة إلا ابتغاء نصرة دينك، وأن ما افتراه الظواهري لم يقع وليست لي به علاقة، فاللهم أنزل لعنتك على الكاذب منا»

* كاتب قطري