الحِجَاج
يغلب على الفكر العربي طابع «المونولوج» وليس «الديالوج» أي الخطاب الفردي وليس الحوار الثنائي لأن الفكر عقائد وأحكام مسبقة لا تقبل النقاش ولا الحوار مع أن القرآن الكريم كتاب حِجَاج وحوار، ومحاولات إقناع للخصوم، لذلك استعمل أسلوب الحِجَاج. وقد ورد لفظ «حجج» في القرآن كفعل ثلاث عشرة مرة، بأربعة معان: الأول الحِجَاج في الله مع أن الله ليس موضوعا للحِجَاج لأنه واضح بذاته، موضوع للبرهان «ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ»، والحِجَاج هو الأخذ والعطاء، النفي والإثبات، وهو أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان، والله واضح بذاته، والغريب هو الحِجَاج بعد معرفة الحقيقة لدحضها ولتبرير الباطل «أتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ»، ولا يمكن الحِجَاج مع من هداه الله لأن الظن لا يدحض اليقين «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ»، فالرسول يحاجج قومه ويثبت لهم الحق والقوم لا يحاجّون الرسول لإثبات الباطل ودحض الحق، ولا سبيل إلى مواجهة الحِجَاج إلا إسلام الوجه لله أي العودة إلى الفطرة «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ»، والحِجَاج بعد الاستجابة له لا قيمة له «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ».
والثاني هو الحِجَاج عن علم وليس عن جهل «هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»، الحِجَاج عن علم مقبول لأنه يمكن الوصول إلى الحقيقة، أما الحِجَاج عن جهل فإنه يتحول إلى جدل عقيم، والحِجَاج بعد العلم لا يحتاج إلى حجاج مضاد بل إلى حياة مشتركة تقوم على العدل وترفض الظلم والكذب والبهتان «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ». والثالث الحِجَاج فيما نزل من قبل وليس فيما نزل من بعد لأن الحِجَاج في الأصل وليس في الفرع «يَا أهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ»، فلا يمكن الحِجَاج في إبراهيم وقد أنزلت التوراة والإنجيل بعده، فقد عاش إبراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وأنزلت التوراة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والإنجيل في القرن الأول الميلادي.والرابع الحِجَاج في النار لا يؤدي إلى شيء لاعتراف الضعفاء أنهم كانوا تبعا للأقوياء، وفقد استقلال عقولهم «وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً»، فالحِجَاج تسليم واقتناع. أما لفظ «حجة» فقد تكرر ثماني مرات كاسم بخمسة معان: الأول أن الله هو الحجة البالغة. ولو شاء لهدى الناس أجمعين «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أجْمَعِينَ»، ولكن الله ترك الناس لعقولهم ومسؤولياتهم وحرياتهم ولاختياراتهم وإلا فما لزمت الحجة أي وسيلة الإقناع. فإذا استمر الحِجَاج في الله بعدما استجيب للحجة الأولى فإن الحجة الثانية تكون داحضة «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ» لأن الحجة لم تتوجه إلى العقل بل اصطدمت بتصلب الإرادة التي لا ينفع معها توالي الحجج، فالعناد ليس حجة مضادة يمكن دحضها حتى يأتي الإقناع.والثاني الحجة للناس على الله «وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ»، فالتوجه نحو الله يمنع ذريعة الناس بأنه لم يهتد أحد، ويثبت أن الحجة أقنعت، وأن الإقناع بالحجة أفاد، وأن الاقتناع النظري تحول إلى سلوك عملي بالتوحد نحو غاية واحدة وهدف واحد، كما يمنع الناس من أن يكون لهم حجة على الله بعد إرسال الرسل «لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»، وأن البلاغ قد تم، والرسالة قد وصلت «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً». فالوحي حجة، والرسالة حجة، والبلاغ حجة «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ». والثالث حجة النبي على قومه مثل حجة إبراهيم «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ»، وما أكثر حجج إبراهيم، تكسير الأصنام وتحدي كبيرها بالدفاع عن نفسه أو عن صغار الأصنام أو أن يسمعوا كلام القوم، وتفجير ينبوع الماء بين أصابع نجله إسماعيل في زمزم وأمه تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن المياه لأسرتها حماية لها من الهلاك، بل إن إبراهيم استعمل الحجة مع نفسه للهداية والوصول إلى الله، بالانتقال من الأصغر إلى الأكبر، من النجم إلى القمر إلى الشمس إلى ما وراء الشمس، ومن الكم إلى الكيف، ومن المرئي إلى اللامرئي، كما طلب من الله حجة كي يطمئن قلبه بوجوده وهو أخذ أربعا من الطير وتقطيعها ثم مناداتها كي تعود سليمة حية من جديد.والرابع الحجة كمعجزة، إحضار الآباء أي بعث الموتى، وهو تعجيز أكثر منه حجة، «مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». هي ذريعة للتنصل من إعمال العقل والنظر والتعصب للرأي ورفض الطبيعي إلى المصطنع، والتهرب من الانصياع للحق.والخامس إذا توقفت الحجة عن أداء دورها في الإقناع والاقتناع لم يبق إلا العمل لكل فريق، والعمل خير حجة في نهاية الزمان كرصيد للإنسان بعد أن ينتهي الوقت وينقضي العمر ويأتي يوم الحساب. فالعمل خير حجة ليس للإقناع بل للإنقاذ والخلاص «لَنَا أعْمَالُنَا وَلَكُمْ أعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ». الحجة إقناع ومشاركة ومسؤولية جماعية، في حين أن العمل مسؤولية فردية وتحمل للنتائج، ثوابا كان أم عقابا.* كاتب ومفكر مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء