منذ ما لا يزيد على خمسة عشر عاماً إلا قليلاً تم تأسيس أول المحاكم الدولية المعاصرة لمحاكمة هؤلاء الذين يرتكبون جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة العرقية. ولكن مازالت الانتقادات الموجهة إلى مثل هذه المحاكم تقوم على حجة قوية مفادها أن الجهود التي تُـبذل من خلال هذه المحاكم تؤدي إلى إعاقة تحقيق هدف أعظم أهمية، ألا وهو السلام.

Ad

وعادة يأتي التعبير عن هذه الانتقادات في أقوى صوره حين يُـتهَم رؤساء الدول الذين مازالوا على رأس السلطة بارتكاب جرائم. ومن بين أحدث الأمثلة على ذلك الاتهامات التي وجهها مدعي المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني عمر حسن البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة العرقية في دارفور. والحقيقة أن تصريحات الإدانة والشجب التي أطلقت ضد عملية العدالة هذه المرة كانت أكثر قوة وأشد عنفاً وحماساً من أي وقت مضى. كانت الانتقادات صاخبة أيضاً في عام 1995 حين وجه مدعي المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة الاتهام إلى رئيس الجمهورية الصربية في البوسنة رادوفان كارادزيتش ورئيس هيئة أركانه العسكرية الجنرال راتكو ملاديك، بل وكانت أعلى صخباً حين اتُـهِما مرة أخرى في وقت لاحق من العام نفسه بارتكاب «مذبحة سربرينتشا». وكان توقيت الاتهام الثاني بصورة خاصة سبباً في إثارة الانتقادات، وذلك لأنه جاء قبل موعد انعقاد مؤتمر «دايتون» للسلام مباشرة. وبسبب تعرضهما للاعتقال في حال مغادرتهما للبلاد، فلم يذهبا إلى دايتون. ولكن كما تبين بعد ذلك فإن غيابهما لم يتسبب في منع الأطراف من التوصل إلى اتفاق، بل وربما كان غيابهما في الواقع بمنزلة عامل مساعد، حيث نجح زعماء البوسنة وكرواتيا ويوغوسلافيا في التوصل عن طريق المفاوضات إلى إنهاء الحرب في البوسنة.

في عام 1999 اتهمت المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس يوغوسلافيا بجرائم ارتكبها في كوسوفو. ومرة أخرى ركزت الانتقادات وتصريحات الشجب على التوقيت. ففي ذلك الوقت كان تدخل حلف شمال الأطلنطي في كوسوفو جارياً، وزعم المنتقدون أن محاكمة ميلوسيفيتش جعلت من المحكمة أداة في يد حلف شمال الأطلنطي، وأن ذلك من شأنه أن يمنع التسوية، إلا أن تلك التكهنات لم تصدق، فقد استسلم ميلوسيفيتش بعد أسبوعين من توجيه الاتهام إليه، وانتهت الحرب.

كان الرئيس الليبيري تشارلز تايلور هو الرئيس التالي الذي يوجَه إليه الاتهام أثناء توليه زمام السلطة، ورغم أن مدعي المحكمة المختصة بسيراليون وجه الاتهام إلى تايلور في مارس 2003 بارتكاب جرائم أثناء الحرب التي خربت البلاد، فإن الاتهام لم يُـكشَف عنه علناً إلا بعد ثلاثة أشهر. ومرة أخرى كان التوقيت عاملاً أساسياً في استثارة الغضب. فقد أذيع الاتهام في يونيو 2003، أثناء حضور تايلور لمؤتمر سلام في غانا، وهو المؤتمر الذي كان المقصود منه تسوية النزاع وإنهاء الحرب الأهلية في بلاده.

وكان المسؤولون الغانيون الذين استضافوا المؤتمر هم الأكثر غضباً حين طُـلِب منهم اعتقال تايلور في ظل تلك الظروف، فرفضوا اعتقاله. ورغم أن التعاطف مع الغانيين الذين وُضِعوا في موقف حَـرِج للغاية كان بالأمر الوارد، فإن الاتهام كان سبباً في تكثيف المطالبات بعزل تايلور، فهرب إلى المنفى، الأمر الذي أدى فعلياً إلى إنهاء الحرب. والآن يُحاكَم تايلور في لاهاي، وبعد عقدين من الصراع الرهيب تعيش ليبيريا الآن في سلام وتعيد بناء البلاد في ظل حكومة ديمقراطية.

لا نستطيع أن نستبعد احتمال تفاقم صعوبة المحاولات الرامية إلى إحلال السلام في دارفور نتيجة لتنفيذ العدالة هناك. فالعدالة والسلام قيمتان مستقلتان. وكل من هاتين القيمتين يشكل أهمية كبرى في سياقها، ولكن يبدو أن تنفيذ العدالة يشكل على الأمد البعيد وسيلة للإسهام في إحلال السلام، ولكن ليس لأحد أن يجزم بأن الأمور قد تجري على المنوال نفسه في الأحوال كلها.

ولكن طبقاً للسجل حتى الآن فقد يبدو بعض التشكك في محله بشأن الزعم بأن العدالة سوف تعوق السلام. إذ إن الصراع في دارفور ظل دائراً منذ خمسة أعوام ونصف العام. وطبقاً للتقديرات فقد أسفر هذا الصراع حتى الآن عن مقتل ثلاثمئة ألف إنسان على أيدي قوات خاضعة تمام الخضوع لسيطرة البشير، كما اضطر 2.7 مليون إنسان للنزوح. وقبل أسبوع واحد من الاتهام، قُـتِل سبعة من أفراد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، وأصيب 22 بجراح في كمين نصبه أفراد ميليشيا جيدة التسليح. وفي الوقت الحالي لا تجري عملية تسوية سلمية جادة. إذن، ما هو الأساس الذي استند إليه الزعم بأن اتهام البشير يشكل إعاقة للتسوية؟ وأي تسوية تلك التي سيعوقها الاتهام؟

من الجدير بالملاحظة والذِكر أن قضية دارفور أحيلت إلى المحكمة الجنائية الدولية بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. والمعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية تمنح مجلس الأمن صلاحية تأجيل المحاكمات إذا كان ذلك مطلوباً لتيسير إتمام عملية تسوية سلمية قائمة. لذا، يتعين على منتقدي الاتهام إذا أرادوا أن يتحرك مجلس الأمن لتأجيل المحاكمة أن يتحملوا على الأقل عبء إثبات احتمال وجود عملية تسوية سلمية مرجحة.

لقد شرع العالم في تأسيس المحاكم الجنائية الدولية منذ عقد ونصف العقد من الزمان من أجل إنهاء الحصانة التي يستطيع بها رؤساء الدول وزعماء الجماعات العصابية أن يرتكبوا جرائمهم الشنيعة. ولقد بدأت هذه الجهود في إحراز النجاح تدريجياً، والاتهام الموجه إلى البشير، الذي يتمتع بحق افتراض البراءة مثله كمثل أي متهم آخر، يشكل معلَماً على قدر عظيم من الأهمية على الطريق الطويل الذي يتعين علينا أن نكمله حتى النهاية إذا ما أردنا الوصول إلى الغاية التي حددها العالم لنفسه.

* أرييه نيير ، رئيس معهد المجتمع المفتوح وأحد مؤسسي منظمة  هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»