جزر الإمارات و نووي إيران
تبقى العلاقة بين دولة الإمارات العربية المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقة حرجة وشديدة الخصوصية؛ فمن ناحية تظل السياسة الخارجية الإماراتية، في رشدها وواقعيتها والتزامها الواضح، معنية بعلاقات متوازنة ومحسوبة مع الدولة الإيرانية، ومن ناحية أخرى لا تتوقف تلك السياسة الخارجية أبداً عن التذكير بالحق الإماراتي في الجزر المحتلة، والمطالبة بحل سلمي لهذا الإشكال، الذي دخل عامه السابع والثلاثين.وكان شاه إيران المخلوع قد استغل فرصة انسحاب القوات البريطانية من الخليج، وإعلان دولة الإمارات العربية المتحدة؛ ووضع يده على الجزر الثلاث المهمة في الخليج طنب الكبرى؛ وطنب الصغرى؛ وأبو موسى، والعائدة إلى الدولة الوليدة، واعتبرها أراضي إيرانية، مستنداً في ذلك إلى الفراغ العسكري الحاصل وقتها، والضغوط التي واجهتها الدولة الإماراتية من بعض محيطها، وحاجتها الماسة إلى الاعتراف بها، وأخيراً سياسة الأمر الواقع التي وجدت تكريساً عبر القوة العسكرية الإيرانية، والعلاقات الاستراتيجية القائمة آنذاك بين إيران الشاهنشاهية والقوى العظمى النافذة في العالم.
ومنذ ذلك التاريخ راحت الدبلوماسية الإماراتية تؤسس استراتيجيتها في مقاربة ذلك الملف الحساس والشائك؛ فمن جهة كانت الإمارات تواجه صعوبات في تعزيز اليقين في اتحادها الوليد آنذاك، بمنطقة تعرف التفتت لا الاتحاد، وتنزع إلى الصراعات لا التكامل، ومن جهة أخرى كان بعض الدول النافذة في الإقليم غير مقتنع بفكرة الاتحاد، ومرتاب في ما يمكن أن تتمخض عنه، وهو الأمر الذي أرهق تلك الاستراتيجية وضيّق خياراتها.ولم تكن تلك هي الصعوبات الوحيدة التي تعترض الدولة الوليدة في منطقة الخليج ذات الزخم الاستراتيجي العالمي، بما تحويه في باطن أراضيها وأعماق مياهها من ثروة بترولية تمثل عصب الحياة في العالم المتقدم وشريان اقتصاده الرئيس، إذ واجهت الإمارات صعوبات أكبر تتمثل في محاولة تأسيس أركان الدولة في وقت كان الكادر البشري الإماراتي في حاجة كبيرة إلى التعليم والتأهيل والتدريب. والواقع أن تلك الظروف الصعبة كان يمكن أن تصرف أنظار قادة الدولة الوليدة آنذاك عن مسألة الجزر برمتها، لكن الرؤية الثاقبة والمهارة الاستراتيجية الفطرية التي تحلى بها الزعيم الإماراتي التاريخي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رسمت للدولة الإماراتية استراتيجيتها المختارة لمقاربة أزمة احتلال الجزر: علاقات شبه طبيعية مع إيران، وخطوط تواصل اقتصادي وعمالي وتجاري، وإبقاء إشكال الجزر حياً نابضاً موضوعاً على أي طاولة تجمع الطرفين، واستخدام أوراق متاحة مع الحلفاء، خصوصاً في الأسرة الخليجية والعربية لرهن أي تطوير في العلاقات مع إيران بحل مسألة الجزر، وإدخال المسألة نفسها في أي حزمة مصالح ضخمة مع القوى العالمية المتنفذة.لم تحسم تلك الاستراتيجية مسألة الجزر بالطبع، إذ لم يكن مفترضاً لها هذا النجاح في تلك العقود القليلة وفي إطار موازين القوى تلك، لكنها نجحت في الوقت نفسه في تحقيق معظم أهدافها؛ فقد بقيت مسألة الجزر حية من دون اندثار أو نسيان أو تهوين، لتجد لنفسها موقعاً في كل بيان صادر عن تجمع دولي معتبر تنتمي إليه الإمارات، ولتقرأ عنها بنداً في كل إعلان أو وثيقة تصدر عن مؤتمر دولي أو إقليمي تحضره الدولتان، ولتجدها بنداً دائماً في بيانات جامعة الدول العربية، ومطالبة شبه دائمة في كل اجتماع أممي وكل لقاء يجمع إيرانيين بأطراف إقليمية، وأخيراً ذريعة جاهزة، من بين ذرائع أخرى، تسوقها دول مهمة في العالمين العربي والإسلامي عند الحديث عن عدم تطوير العلاقات الثنائية بين إيران وتلك الدول. قبل أيام قليلة جددت الإمارات، في اجتماع وزراء خارجية دول عدم الانحياز، الذي عقد بطهران، مطالبتها لإيران بإنهاء احتلالها للجزر الثلاث بالوسائل السلمية عن طريق المفاوضات الثنائية أو إحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية، لكن تلك المطالبة الأخيرة تختلف عن مئات المطالبات السابقة لكونها تأتي في وقت حاسم بالنسبة إلى الدولة الإيرانية، تجد تلك الأخيرة نفسها فيه على محك خطر، ربما لم تعرفه منذ اندلاع الثورة الإسلامية في نهاية العقد الثامن من القرن الفائت، ورغم خوضها حرباً شرسة مع عراق صدام، ومرورها بحربين كبيرتين في العراق وأفغانستان، في مطلع الألفية الجارية، فالدولة الإيرانية اليوم، على خلفية أزمتها النووية مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ودول إقليمية عديدة تمر بمنحنى صعب سيكون ما بعده مختلفاً اختلافاً جذرياً عما سبقه، وهو الأمر الذي سيلقي بظلال كثيفة على مسألة الجزر.وفي معظم الأحوال، ستكون المطالبة الإماراتية الأخيرة مطالبة فارقة من حيث صعوبة تكرارها بالوتيرة ذاتها، وضمن الاستراتيجية نفسها، التي اعتمدتها الإمارات على مدى السنوات السبع والثلاثين الماضية.فدخول إيران معركة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل سيجعل الإمارات مضطرة لتغيير استراتيجيتها التي عرفت ثباتاً واضحاً على مدى العقود الأربعة الماضية. ونجاح إيران في المضي قدماً في مشروعها النووي، عبر بناء نظام ردع، يتضمن قبولاً لكونها دولة نووية ضمن التزامات محسوبة مع الولايات المتحدة والمجتمع الأوروبي، ربما يجعل من تلك المطالبة آخر المطالبات ضمن الاستراتيجية الإماراتية الراهنة، وهو ما يعزز الحاجة إلى اجتراح استراتيجية إماراتية جديدة تبقي على حقها في المطالبة بجزء مهم وحيوي من أراضيها تحتله إيران.* كاتب مصري