مايزال الحديث عن التنمية الإنسانية المستدامة والحكم الصالح (الرشيد) في مرحلتهما الأولى، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي، فحتى عهد قريب، وربما قبيل صدور تقارير الأمم المتحدة الإنمائية، كان المقصود بالتنمية هو النمو الاقتصادي، الذي اختُزِل في تحقيق بعض النجاحات الاقتصادية، ثم استُبدل التركيز على النمو الاقتصادي، بالتركيز على التنمية البشرية ثم امتد إلى التنمية المستدامة كما أصبحت تسمّى في ما بعد، أي الانتقال من الرأسمال البشري الى الرأسمال الاجتماعي وصولاً إلى التنمية الإنسانية ببعدها الشامل، أي الترابط بين مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي كلها، بالاستناد إلى نهج متكامل يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الأمد في حقول التعليم والتربية والثقافة والإسكان والصحة والبيئة وغيرها، ويتوخى هذا التوّجه قدراً من العدالة والمساءلة والشرعية والتمثيل في إطار حكم القانون والمؤسسات.

Ad

من هنا نشأت العلاقة بين مفهوم الحكم الصالح (الرشيد) والتنمية الإنسانية المستدامة، لأن الحكم «الرشيد» هو الضامن لتحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية إنسانية مستدامة. ومع ذلك فقد ظل المفهوم بحاجة إلى تأصيل وتهيئة، خصوصاً في المنطقة العربية، التي تعاني ضعف المشاركة ومركزية الدولة الشديدة الصرامة وعدم اعطاء هيئات الحكم المحلي دورا كافياً، ناهيكم عن إبعاد مؤسسات المجتمع المدني عن المساهمة، وعدم توفر بيئة صالحة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية لذلك، سواءً على صعيد التشريعات أو بسبب ضيق مساحة الحريات الخاصة والعامة، وبشكل خاص الحريات الأساسية، أو بسبب الكوابح والمعوقات الاجتماعية والموروثية والعادات والتقاليد المقيدة والنظرة الدونية إلى المرأة وحقوقها وغير ذلك.

وهنا لابد من طرح السؤال التالي: ما الذي نعنيه بالتنمية؟ فهناك المفهوم الضيق المتداول أحياناً، لاسيما حينما نستخدمه ببعده التقليدي، الذي يُقصد منه التنمية الاقتصادية، في حين يقابله المفهوم الواسع، الذي يستند إلى فكرة التنمية الإنسانية ببعدها الشامل، وكذا الحال بالنسبة لفكرة الحكم الراشد أو «الحكم الصالح» أو «الجيد» أو «الرشيد» والذي شاع استخدامه في السنوات الأخيرة، فالمفهوم الضيق للحكم الصالح، والذي تُفضل أدبيات البنك الدولي استخدامه، يعتمد على فكرة الإدارة الرشيدة بدلالة النمو الاقتصادي، وذلك عندما يتم التطرق إلى التنمية، في حين أن المفهوم الواسع يرتفع إلى مستوى السياسة، فيعالج مسألة الحكم والعلاقة بين عامة الناس والإدارة الحاكمة،أي العلاقة بين الحاكم والمحكوم وسبل اختيار الحكام واستبدالهم وتغييرهم وفقاً لانتخابات دورية على أساس التعددية، بما يدخل في ذلك مسألة الشرعية والمشاركة والتمثيل والمساءلة. إضافةv إلى الإدارة العامة الرشيدة باعتبارها مكونات للحاكمية الراشدة (الصالحة) كما يذهب إلى ذلك تقرير التنمية الإنسانية العربية، الذي أخذ منذ نحو خمس سنوات يناقَش في العديد من المحافل ويترك تأثيراته على السلطة والمعارضة أحياناً، وأعتقد أن ما سيحدثه من تراكم سيكون له دور مستقبلي كبير.

وتبرز الحرية كفكرة جوهرية ومركزية في عملية التنمية الإنسانية، خصوصاً إذا اعتبرنا التنمية الإنسانية «عملية توسيع خيارات الناس»، وبهذا المعنى، للناس ولمجرد كونهم بشراً، حق أصيل في العيش الكريم مادياً ومعنوياً، جسداً وروحاً ويترتب على ذلك:

-1 شمول مفهوم التنمية مبدأ المساواة وعدم التمييز بين البشر وفقاً لأي اعتبار اجتماعي او اقتصادي أو ديني أو قومي أو لغوي أو جنسي، أو غير ذلك.

-2 اتساع مفهوم التنمية ليشمل الجوانب المعنوية، مثل الحرية واكتساب المعرفة وحق التمتع بالجمال واحترام الكرامة الإنسانية والمشترك الإنساني، وبهذا المعنى فالتنمية لا تعني الوفرة المادية فحسب، ولكنها تتطلب أيضاً بناء القدرات البشرية المطلوبة لتحقيق الرفاه والتوظيف العقلاني لهذه القدرات في مجالات النشاط الإنساني والإنتاج والسياسة والمجتمع المدني.

إذن، فالتنمية لا تعني مجرد تنمية الموارد البشرية، ولا حتى تنمية بشرية فحسب، أي تلبية الحاجات الأساسية، لكنها تنمية إنسانية شاملة في البشر والمؤسسات المجتمعية لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

والمفهوم الواسع للتنمية الإنسانية يضيف إلى الحريات المدنية والسياسية (بمعنى التحرر من القهر ومن جميع أشكال الحطّ من الكرامة الإنسانية، مثل الجوع والمرض والفقر والخوف) الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليصل الى قاعدة عريضة تعتمد على مبادئ حقوق الإنسان، لاسيما إذا أضفنا إليها مبادئ الحق في التنمية، والحق في السلام، والحق في بيئة نظيفة، والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية والتقنية، والحق في الديمقراطية والتعددية، وهذه الحقوق أصبحت اليوم حقوقاً جماعية وفردية في آن.

أما الحكم الصالح فلابد أن يعتمد على عدد من المحاور الأساسية منها: صيانة الحرية، أي ضمان توسيع خيارات الناس، وتوسيع المشاركة الشعبية والمساءلة الفعالة والشفافية الكاملة في ظل فصل السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون والقضاء المستقل والنزيه والكفء، الذي تنفّذ أحكامه من قبل السلطات التنفيذية.

ولعل هذا الأمر يتكامل ما بين التنمية الإنسانية بمعناها الشامل والحكم الصالح، لاسيما بتضافر ثلاثة قطاعات: قطاع الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص (رجال الأعمال)، ولكي يتحقق قدر من التعاون الضروري بين القطاعات المختلفة وفي إطار تعاون دولي، لابد من احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتكريس البنية القانونية، والتحلي بمبادئ الإدارة الرشيدة المؤسسية بعيداً عن التسلط الفردي والهيمنة، وهذا يتطلب تداولاً للسلطة ومكافحة للفساد وفقاً لمساءلات قضائية، وفي إطار مجتمع مدني حر وعلاقات دولية تتسم بقدر من الاحترام لقواعد القانون الدولي وفي إطار المصالح المشتركة.

* باحث ومفكر عراقي