في الجزء الأول من هذه المقالة تعرضت لبعض المسلكيات والاعتقادات التي خلقتها وجذّرتها أصولنا الصحرواية مثل الرضوخ التام للطبيعة والظروف، وتقديم رابطة الدم على أي عوامل اجتماعية أخرى لبناء العلاقات والتحالفات، وهيمنة الانفعالية العاطفية على التفكير والتصرف، والسلطة القائمة على العمر والمشيخة لا العلم والكفاءة التي تُجذِّر الفكر المحافظ وتقمع المخاطرة والتجديد، والأهم برأيي عقلية الوصاية على «الرعايا» والحلقات الاجتماعية الأضعف كالمرأة أو الطفل أو العمالة الهامشية.
وهذا ينطبق على المجتمعات كلها التي نشأت في الصحراء، وإن استقرت في فترة لاحقة في المدن والواحات. كما ينطبق على «أبناء القبائل» والبدو المعاصرين مثلما ينطق على «الحضر». وهذا لا يلغي الفروقات الشخصية. فالتعليم والتربية والانفتاح على المجتمعات والأفكار الأخرى قد غيَّر الكثير من الأفراد وخلق المتنورين والرواد، ولكن التغيير مازال بطيئا على المستوى الاجتماعي. لذا، فإننا كدولة مازلنا نعاني العقلية القبلية الصحراوية التي- إن ساعدت في بقائنا في الصحراء- لم تعد تلائم متطلبات القرن الحادي والعشرين وتحديات العولمة.المزارع في بلاد الشام مثلا يزرع شتلة الزيتون على أمل أن يجني محصولها بعد خمس سنوات على أحسن تقدير. فتعلم أصول التخطيط والادخار والتقنين وتنويع مصادر الدخل. نحن لم نتعلم ذلك. لذا، فإننا وحتى يومنا هذا نعيش كدولة من دون أي خطط استراتيجية واضحة ونعتمد على مورد ناضب ونستهلك القليل الذي كان «فائضا» يوما ما وتركناه «للأجيال القادمة».والاقطاعي يعي دور وأهمية الأرض، فهي مصدر رزقه وهويته وانتمائه. في حين أننا مازلنا نعاني لتعريف المواطنة والانتماء ولا نفهم أو نقدر معنى الارتباط بالأرض. وهذا عامل كبير وراء تخوفنا وأزمتنا مع «البدون» أو الكويتيين من أصول غير عربية/صحراوية. فهؤلاء ولاؤهم بالتعريف القبلي محدود بأصولهم وعلاقاتهم بأولي الأمر فقط، لأننا لا نفقه معنى الولاء للأرض التي نولد عليها ونتربى فيها.الإرث التاريخي معززا بالسياسة الحكومية جعلا أبناءنا يركزون على المسمى الوظيفي لا العمل، وعلى الشهادة لا العلم، وعلى المظاهر لا الجوهر. هذا- في بيئة محافظة سلطوية- عزز السلبية تجاه البيئة والظروف وقتل فرص التفكير النقدي والتجديد مما أبطأ عجلة التغيير الاجتماعي الطبيعية. أما عقلية الوصاية فتتضح في ديناميكية الأسرة كما تبرز في الساحة السياسية. فبعض نواب مجلس الأمة- على سبيل المثال لا الحصر- يتقمص شخصية شيخ القبلية فور ظهور نتائج الانتخابات ويتصرف وكأنه الخبير في أمور الدنيا والدين كلها لمجرد تصويت بعض الناس لهم يدفعه إيمانه المطلق بالوصاية على المجتمع وحقه في التدخل في الحريات والخيارات الشخصية. ونرى تصرف بعضهم بأموال الدولة بالعقلية الصحراوية نفسها التي لا تفقه قيمة الإدخار أو التخطيط، فنرى دعوات المنح والزيادات وإلغاء القروض من دون أي احتساب للمستقبل أو التفات لفكرة الاستثمار أو تنويع مصادر الدخل. كما نرى فيهم تجسيد الانفعالية العاطفية البعيدة عن السياسة والمتطلبات الدبلوماسية والتي كانت محدودة الضرر في الصحراء، ولكنها قد تكون مميتة في عالم اليوم المعقد. ولعل أفضل تجسيد معاصر للعقلية القبلية الصحراوية هي الرد الشهير في وجه الرأي المخالف: «اللي مو عاجبة الباب مفتوح»! وليت الأمر بهذه البساطة... فالأمر الأهم الذي لابد أن نعيه تماما أن الأمور تغيرت، ولم يعد بإمكاننا شد الرحال والبحث عن وطن آخر متى ما انهار هذا الوطن. فإما أن نتغير وإما أن ننقرض.
مقالات
العقلية القبلية 2
05-09-2008