إن صح ما ذهبنا إليه (في مقالة الأسبوع الماضي) من أن الحركة الصهيونية إنما تأسست فكريا وإيديولوجيا وسياسيا على مسلّمة هي من أركان الفكر المعادي للسامية، كما تبلور في أوروبا، لا سيما في الأزمنة الحديثة، مفادها أن اليهودي «أجنبي»، طبيعة وكنها وجوهرا، ومن أن الحركة تلك، إذ نجحت في تهجير يهود القارة وفي إنشاء «وطن قومي» لهم على أرض فلسطين، إنما أفلحت في بلوغ مطلب أثير لدى المعادين للسامية هو المتمثل في فصل اليهود عن «الأمة»، كانوا، هم، قد اخفقوا في بلوغه بالرغم من كل ما بذلوه من وسائل، اشتط بعضها فلم يتوان عن توخي الإبادة، شأن المحرقة التي اقترفها النازيون، فإن في الإقرار بذلك ما من شأنه أن يوفر قاعدة ومنطلقا متينيْن في محاججة الحركة الصهيونية على ذلك الصعيد الأخلاقي الذي تدعي لنفسها فيه تفوقا.
صحيح أنه بإمكان الحركة تلك أن تزعم لنفسها أمرا تراه كفيلا بإسباغ المشروعية عليها، هو نجاحها في الانتقال بمآخذ المعادين للسامية على اليهود ومسلكهم حيالهم إلى نسق إيجابي، بأن جعلت رفض اليهود وإقصاءهم يفضي إلى غير مآله المحتوم سابقا، اضطهادا مطّردا أفقه الإبادة، بل إلى انعتاقهم وتحررهم على يدي حركة صاغت لهم مشروعا قوميا وأدرجتهم فيه وأنجزته، ولكن الادعاء ذاك قد يكون وجيها في تبرير نجاح الحركة الصهيونية على الصعيد الإجرائي، إلا أنه يُبقي على المعضلة الأخلاقية في شأنها قائمة لا تُذلل.فالحركة تلك كانت نتاج حيف، هو ذلك الذي كابده اليهود في أوروبا، وهي قد تفعلت في التاريخ، ربما بفعل منبتها ذاك، على نحو أدى إلى إعادة إنتاج الحيف، صفةً فيها ضرورية وملازمة، لا فكاك لها منها. إذ إن انبناءها على تلك الفكرة الأساسية، المستقاة من معاداة السامية الأوروبية، حول الطابع الجوهري «لأجنبية اليهودي»، أي عدم قدرته على التعايش، عبر عن نفسه على أرض فلسطين، احتلالا للأرض، امتلاكا حصريا، يجعل من اجتثاث شعب والحلول محله شرطا شارطا، لا مجرد ملمح عارض، في تحقيق الانفصال الجذري لليهودي عن سواه من بني البشر، وفق ذلك التشخيص الذي يأخذ به المعادون للسامية، والذي نجحوا في نقله إلى ضحاياهم، أقنوما يأخذون به وقناعة لديهم راسخة، كما أن الصفة تلك هي أيضا ما يجعل التسوية متعذرة من الجانب الإسرائيلي، على ما دلت العقود الماضية منذ اتفاقات أوسلو على الأقل، لأن التسوية تتطلب بطبيعتها مقاربة تتوخى النسبية لا يمكنها إلا أن تناقض انفصالا جذريا له طابع الإطلاق كذلك الذي سبقت الإشارة إليه.معنى ذلك أن الصهيونية، بالنظر إلى منطلقاتها الفكرية والإيديولوجية تلك، غير قادرة على إنتاج الحلّ، وأنها ستظل تستبعده وتلغيه من أفقها ما استمر ميزان القوة قادرا على تمكينها من ذلك، أي إلى أمد غير منظور، لا تفي الاعتبارات السياسية بمفردها في تقديره وتعيينه.استنتاج آخر، بالغ الأهمية، يترتب على ما سبق، هو ذلك الذي مفاده أن الحركة الصهيونية، إذ قامت على تبني فكرة «أجنبية اليهودي» صفة فيه جوهرية، ربما أضمرت انتسابا إلى موروث غربي، بما في ذلك الحديث منه، هو ذلك التمييزي أو الرجعي، لا ذلك التحرري، والكوني في منحاه ذاك، والذي جاء به عصر الأنوار. لذلك كان تبني الحركة الصهيونية وتوسلها لما جاءت به ليبرالية الأنوار، من مؤسسات أو من أفكار، على سبيل الانتهاز أو المسخ. فهي عندما أخذت بمبدأ حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير، أنجزته اغتصابا، وهي عندما أخذت بالنظام الديموقراطي، لم تُقم ديموقراطية مواطنين، بصرف النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني، بل أنشأت ديموقراطية «اثنية»، أي حصرية، تمييزية لا تعني إلا مواطني الدولة العبرية من اليهود، فأخلت بذلك بروح الديموقراطية وإن التزمت نصها، بل إنها دفعت بمبدأ «الانفصال الجذري لليهود» إلى الأقصى، إذ سحبته على صعيد علاقاتها الدولية وموقعها بين الأمم، فأحجمت عن توقيع الاتفاقيات أو البروتوكولات الملزمة (شأن ذلك المتعلق بانتشار أسلحة الدمار الشامل أو بقيام المحكمة الجنائية الدولية، على سبيل المثال لا الحصر) وعن الالتزام بالقرارات الدولية.وبذلك، ربما عادت استثنائية الواقعة الإسرائيلية، في التحليل الأخير، إلى ذلك المبدأ المؤسس الذي سبقت الإشارة إليه، والمتمثل في «أجنبية اليهودي» كما صاغه الفكر المعادي للسامية، وكما تبنته الحركة الصهيونية، وفي ذلك ما قد يمثل بعض أبلغ الحجج في دحض الحركة الصهيونية دحضا أخلاقيا، يفضي إلى «تجريمها» على نحو ما حصل مع نظام الفصل العنصري السابق في جنوب إفريقيا، شرط إنتاج خطاب إدانة يخصها وينفذ إلى عمق رؤيتها وفكرها.*كاتب تونسي
مقالات
أجنبية اليهودي
12-08-2008