تعرض التصور الإسلامي للعلم، الذي يؤسسه النص القرآني نفسه في مواضع كثيرة من خلال حضه المستمر على التفكير والتعقل والرشاد والتعلم، لسوء فهم، من خلال تأويلات خاطئة، ظن بها أصحابها أنهم بذلك يلتمسون السلامة لدينهم والتقوى لأنفسهم، فقدموا صورة مشوهة عن هذا الدين، تنزع عنه احترامه للتجريب العلمي وحرية التفكير، وتبعده عن طبيعته الاستقرائية، التي استفاد منها علماء المسلمين الأوائل، وتحصر العلم في «حفظ النصوص الدينية» وتأويلاتها فقط، وتعلي من شأن هؤلاء الحفظة على حساب المجتهدين، ومن شأن علماء الدين على ما عداهم من علماء في مجالات معرفية إنسانية وطبيعية أخرى، مع أن الإسلام لا يعرف «الكهنوت»، الذي يجعل تفسير النصوص وتلقين التعاليم الدينية بيد فئة بعينها، بل هو، وعلى العكس من ذلك، جعل التفقه في الدين «فرض عين» على كل مسلم، بما يحرره من أن يكون مستلبا حيال أي فرد أو جماعة تحاول أن تلغي عقله، وتقدم له تصوراتها هي عن الدين والتدين. وقد بلغ سوء الفهم هذا في محاولة تصوير العلاقة بين العلم التجريبي والدين على أنها معركة بين خصمين، لا بد لأحدهما أن ينتصر على الآخر في «معادلة صفرية» لا تقبل القسمة على اثنين، مع أن الدين والعلم يلتقيان على أرض واحدة، وهي أن كليهما يهدف إلى خدمة الإنسان والارتقاء به، وكليهما تعرض لمحاولات إقصائه عن هذا الهدف بتوجيه الأبحاث العلمية إلى مجالات تضر بالإنسان مثل التسليح واستغلال الدين من قبل البعض في مصالح شخصية. كما أن هناك «تبادل منافع» بين الاثنين، وهذا كله يصب في مصلحة الإنسان. فالدين قادر على أن يبلغ آفاقا روحية لا يصلها العلم، ويعطي تفسيره لظواهر لا يمكن وضعها تحت «مجهر البحث»، ولا يمكن في الوقت نفسه إثبات عكسها. وهو هنا يحمي الإنسان من التخبط والضياع والاستسلام. والعلم يواصل رحلته في الاكتشاف فنجد في عطائه تفسيرات لبعض ما جاد به النص الديني، ونجد في عجزه أحيانا عن تفسير كل شيء، وبلوغ كل أفق، وتحقيق كل هدف، ما يجعل الاحتماء بالدين ضرورة، لحفظ التوازن الروحي والنفسي، وإضفاء طابع أكثر عمقا للفعل البشري، بما يضمن استمرار تفضيل الخير، واستهجان الشر، وبما يوفر للعلم نفسه إطارا قيميا ومعنويا يحميه من الانزلاق إلى ما يضر الناس. وقد يقول قائل إن الفلسفة أو المذاهب الوضعية يمكن أن تفعل الشيء نفسه، لكن في الواقع فإن ارتباط الدين بعوالم فوق الحس وخارج المادة يعطيها عمقا أكبر بكثير، ويجعلها توقر في النفس والضمير بصورة لا تحققها غيرها من قوانين وسنن. ولو قدر للمسلمين أن يواصلوا عطاءهم في المنهج العلمي، لكانوا قد قدموا للعالم وسائط مهمة لفهم الواقع وتفسيره وتطويره، وربط الإنسان بما وراء الطبيعة.
وإهمال ما نادى به الإسلام من ضرورة التحقق من المعلومات أدى في أحوال عديدة إلى ممارسة ألوان من القمع لحرية التفكير والتعبير. فالجماهير التي غضبت، لخلفيات دينية، على كثير من الأعمال الإبداعية، التي رمي مؤلفوها بالكفر والخروج أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ثبت أنها لم تقرأ هذه الأعمال، بل انساقت وراء تفسير قلة من الكتاب، أو حتى كاتب واحد، وسلمت برأيه وقوله دون أن تكلف نفسها عناء البحث والتحقق. بل الأدهى من ذلك أن بعض من يدعون انتماءهم إلى النخبة يأخذون مواقف ويبدون أراء من بعض الكتب والروايات وغيرها، ممن يثار حولها جدل، دون أن يطلعوا عليها. وبالطبع فهناك فارق كبير بين الحرية والانفلات، الذي يعني الإفراط في التحرر من كل القيود. ولا يوجد مجتمع أيا كانت درجة ديمقراطيته يسمح بحرية مطلقة. فعلى الأقل تنتهي حرية الفرد حين تبدأ حرية غيره. وهناك فارق جوهري بين الإبداع الحقيقي والفوضى الفكرية، يتأسس على مبدأ «القدرة على التغيير»، حسبما يرى الدكتور مراد وهبة. فالإبداع يعمل على تغيير الواقع المعيش، والفوضى الفكرية تقف عاجزة عن إتيان هذا الفعل المهم. وهناك فارق بين البحث العلمي المنهجي وبعض الكتابات الارتجالية التي يتوسل أصحابها بالتابوهات المحرمة في حياتنا مثل الدين والجنس والسياسة طلبا لشهرة غير مستحقة، ورغبة في إحداث جعجعة دون أن يكون هناك طحن.وفي ظل تمسك المؤسسة الدينية والمفكرين والكتّاب كل بما يراه، دون حوار أو انفتاح وتسامح مع الطرف الآخر، لن ينقشع الضباب، الذي يخيم على حياتنا الفكرية والإبداعية. فالذين يقيسون كل منتج فكري على ما لديهم من تصورات دينية سيجدون دائما ما يبرر بعض مواقفهم المتشددة حيال ما يستجد من أفكار. والذين يكرسون حياتهم للإبداع والتفكير سيعتقدون دائما أنهم أحرار في تصوراتهم وآرائهم، وأن هذا هو الطريق الوحيد نحو التقدم. وللخروج من هذا المأزق لا بد أن يعرف كل طرف حدوده، فلا يتحجر المتدينون بما يؤدي إلى تكلس وشلل التفكير وموته، ولا يتفلت المفكرون والمبدعون بأشكال من التجاوز والاعتداء على العقيدة بما يجرح مشاعر الملايين من المتدينين. وهذا الأمر يتحقق حين نفهم جميعا المقاصد العامة للدين، وفي أولها أنه أي الدين يكون لمصلحة الناس، وليس العكس، وأن ندرك السياق الأوسع للإبداع، وفي مستهلها أنه عملية لا تدور في فراغ إنما تنبع من ظروف معينة، وتسعى إلى تحقيق أهداف محددة، حتى لو لم يكن منتجها يقصد ذلك صراحة. وفي كل الأحوال من المهم أن يدرك الطرفان أن الفكر لا يواجه إلا بفكر مثله، وليس بدوائر قضائية أو إشهار السلاح، ناهيك عن المصادرة والمطاردة والنبذ.* كاتب وباحث مصري
مقالات
خصائص النهج الإسلامي في التفكير والتدبير 3- 4
09-09-2008