الشعر والتكرار

نشر في 11-02-2009
آخر تحديث 11-02-2009 | 00:00
 محمد سليمان الخوف من التكرار والتقليد همٌّ يطارد الشاعر الحقيقي ويؤرقه ويدفعه دائما إلى التمرد على ذاته وعلى السائد الشعري سعيا إلى الجديد والمختلف، خصوصاً كلما اتسعت تجربته الثقافية، واكتشف أن الآباء والأجداد قد سبقوه، ولم يدعوا له الكثير، وأنه قد جاء متأخراً وأصبح مجبراً على السير خلفهم، وترديد أصواتهم، لذلك تجولت في كتب التراث العبارة الشهيرة «ما ترك السابق للاحق شيئا» وقال الشاعر القديم «ما أرانا نقول إلا معاداً» وتحدث أبو حيان التوحيدي عن شد الكلام من الكلام وقال في كتابه «الامتاع والمؤانسة»: «تجارب المتقدمين مرايا المتأخرين فيها يرون ما كان وبها يتبصرون فيما سيكون».

وفي شعرنا الحديث تتكرر الشكوى ويتحدث الشعراء عن الجمود والتكرار والركود فيقول صلاح عبدالصبور في إحدى قصائده:

«أعطيك ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهارة... لقاء يوم واحد من البكارة».

وهذه الشكوى لا تخص الشعراء العرب وحدهم، فالخوف من التكرار وتقليد الآخرين همٌّ يطارد الشعراء في كل أنحاء العالم، فالشاعر الإنكليزي يان هاملتون يقول في مقدمة ديوانه «العاصفة وأشعار أخرى» الذي ترجمه بدر الديب، ونشرته الهيئة العامة للكتاب عام 1988 «أرى اليوم في قصائدي المتأخرة تكراراً جريحاً لما كتبت في شبابي»، فالتكرار يعني انشغال الشاعر بتقليد ذاته وقصائده القديمة، وعجزه من ثم عن الانطلاق وتجديد صوته الشعري، واكتساب ملامح فنية جديدة. لكن الشاعر الأميركي جون أشبري الذي يعد ثالث شعراء أميركا الكبار بعد والت ويتمان ووالاس ستيفنس يفاجئنا بحديثه عن التكرار بطريقة مختلفة تماما عندما يقول في إحدى قصائده:

«لم يدعوا لنا شيئاً لنكتب عنه

علينا إذن أن نكرر مرة بعد أخرى

ليستمر الحب»

وكأنه يعتبر التكرار أمراً لا مفر منه وقدراً على الشاعر أن يقبله، وأن يرحب به لكي يستمر نهر الشعر في الجريان والتدفق.

ويسوقنا الحديث عن التكرار والتقليد إلى قضية التأثر واستفادة الشاعر من قصائد الآخرين وأشعارهم انطلاقاً من عبارة الشاعر الإنكليزي رودياردكبلينج «الشعر يلد الشعر» التي تؤكد بنوة الشاعر الشاب لآباء وأسلاف شعريين ساهموا في احتضانه وتكوينه، وشحذ موهبته، فالمبدع لا يبدأ من الفراغ، ولا يولد مبدعاً مكتملاً، إنما يتأثر ويستفيد ويقلد على الأقل في بداياته، ثم يتمرد على هؤلاء الآباء محاولاً الانحراف عنهم لإبراز صوته الخاص والمختلف، الذي قد يظل مسكونا بأصداء أصوات الآباء بدرجة أو بأخرى.

وقد انشغل النقد قديما وحديثا بقضية التأثر، وبشكل وحجم استفادة المبدع من نصوص غيره، فتحدث نقدنا القديم عن السرقات الشعرية، وانشغل النقد الحديث بـ«التناص» الذي يعني ببساطة تشابك النصوص الإبداعية، واتكاء بعضها على بعضها الآخر بشكل واضح أو مستتر، بحاجة إلى ناقد منقب ومدقق.

«الشاعر الماهر يسرق والشاعر الضعيف يستعير» يقول الشاعر الإنكليزي الأشهر ت.س إليوت وهناك بالتأكيد فرق هائل في مجال الإبداع بين السرقة والاستعارة، فالمبدع القوي يسرق فكرة ما أو عبارة من مبدع آخر ثم يفكك ويذوب ويخفي بقوة موهبته، بينما لا يستطيع المبدع الضعيف إخفاء سرقاته، فيستعير بالتالي نص غيره وصوته وملامحه كما هي دون تغيير يذكر.

وقد كان الجاحظ يقول: «الأفكار مطروحة على قارعة الطريق» أي متاحة للجميع و«النَّظْم فقط هو الذي يدمغها بصوت المبدع وملامحه وشخصيته المتميزة». وأظننا لم ننس المتنبي وسرقاته التى كتب النقاد القدامى عنها وأسهبوا، لكن كتاباتهم لم تقلل من تقدير الناس للشاعر الكبير وتعظيمهم له، فقد كان أكبر وأمهر من الذين أخذ عنهم ومنهم. ومن الطريف أن الشعراء رغم حديثهم الدائم عن التكرار وسطوة الآباء وتأثيرهم يفزعون ويغضبون عندما يتحدث النقاد عن استفادتهم من نصوص غيرهم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top