البداوة هي «الحضارة المجمدة»
لا عجب أننا شعب يعاني صراعاً نفسياً وتناقضاً وحيرةً بين الولاء للقبيلة والعائلة والمذهب من جانب، والولاء للوطن على الجانب الآخر، فنجد الكثير منا يسمع المواعظ ويردد الآيات والأحاديث التي تدعو للتقوى والعدل والإنسانية، ولا نلبث أن ننقضها ونناقضها في تصرفاتنا وسلوكنا اليومي.
إن البداوة والحضارة مفهومان متناقضان... وهو أمر يقره علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا... أرجو ألا يُساء فهمي فأنا هنا لا أتكلم عن الأصول والقبيلة، ولكني أتحدث عن قيم البداوة ومخاطرها على تطور وبقاء الوطن، ولا أنتقد هنا «أهل البادية»، ولكن أنتقد السلوك البدائي الذي لا ينحصر فقط على «القبائل» في مفهومها الضيق، ولكن ينسحب على المجتمع كله بمن فيهم مَن يسمون بالحضر وحتى الانقسامات السنية والشيعية والمذهبية والعائلية وغيرها. وسأستند في هذا المقال إلى تحليل د.علي الوردي في هذا الشأن الذي تحدث عنه قبل أكثر من أربعين سنة، وكأنه يكتبه بالأمس القريب لحجم التشابه بين ما يحصل في ذلك الوقت ووقتنا الحالي.إن ما يحدث على الساحة السياسية والإعلامية والتعليمية والاجتماعية من تمجيد للأشخاص، والتعصب والتعالي والتفاخر بالأصل والعائلة والمذهب والطائفة، وما تفرزه من واسطة ومحسوبية تعزز من القيم البدوية على حساب قيم المواطنة والمدنية... ويزيد من بداوتها قيم الوعظ المتجذرة التي أحدثت هوة كبيرة بين ما يقال والواقع. ولا عجب أننا شعب يعاني صراعاً نفسياً وتناقضاً وحيرةً بين الولاء للقبيلة والعائلة والمذهب من جانب، والولاء للوطن على الجانب الآخر، فنجد الكثير منا يسمع المواعظ ويردد الآيات والأحاديث التي تدعو للتقوى والعدل والإنسانية، ولا نلبث أن ننقضها ونناقضها في تصرفاتنا وسلوكنا اليومي، بل تُبَح أصواتنا من فوق المنابر ووسائل الإعلام دعوة لها وللحق الذي يعتقد الجميع أنه ملكه وحده.وما أبشع مكيدة وخديعة «الحق والحقيقة» التي يتغنى بها الجميع (لاسيما في وقت الانتخابات)... والدليل أننا نقول كثيراً ولا نفعل... فعقلنا الظاهر «المتحضر» يختلف عن عقلنا الباطن «البدوي»... وهذا التناقض بين قيم البداوة والحضارة هو سبب ازدواجية الشخصية التي نعانيها وهو داء يستحيل معه بناء الدولة.ولا يختلف بعض مشرعينا في ذلك عن السلطان الذي طغى واستأثر والذي قال فيه د.علي الوردي: «إذا جاء وقت الموعظة بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى، فهو في وقت الموعظة من أشد الناس خشوعاً وتعففاً وزهداً، أما حين يجلس في الديوان ينظر في أمر الخراج وتعيين الولاة وشراء الجواري، فهو لا يختلف عن جالوت أو نيرون بشيء».يتذمر الكثير من الناس على تردي أوضاع البلد ويتحدثون عن الخلل والمشاكل والحلول، وهم لا يعلمون أنهم بسبب ازدواجيتهم مساهمون في صناعتها... فيقول علي الوردي: «إن قولك للظالم أن يكون عادلاً كقولك للمجنون أن يكون عاقلا... فالمجنون يعتقد أنه هو العاقل الوحيد من بين جميع الناس، فإذا قلت له (يجب على الإنسان أن يكون عاقلاً)... قال لك (أحسنت، إن العقل زينة الرجل)، وهو يعني بذلك نفسه طبعاً».والمعضلة هي تغلغل وتمكن القيم البدوية والسلوك البدائي، وأكرر هنا أني لا أعني «أهل البادية» وحدهم، بل منظومات القيم الضاربة بأعماقها في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام والتعليم، ولن يكون هناك بناء حقيقي للدولة والوطن ما لم يتم التخلص من هذه الثنائيات المركبة والطائفية المتعصبة والازدواجية البغيضة... فالبداوة كما يصفها المؤرخ توينبي هي «حضارة مجمدة».