إعلان دمشق وأزمة المعارضة السورية 5 - 5
خروج من الأزمة؟!يبقى أن نتساءل كيف الخروج من أزمة المعارضة، ومَن المؤهل للعمل على الخروج من الأزمة؟ بعد انفجار أزمة «إعلان دمشق» في الأسابيع الأخيرة من العام الماضي، قد نميز بين ثلاثة تنويعات في الطيف السوري المعارض اليوم. ثمة أولا مَن كانوا على/ أو صاروا إلى خصام مع تاريخ المعارضة الديمقراطية منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ومنهم مَن لديهم مشكلة مع مفهوم المعارضة ذاته. هؤلاء بالطبع ليسوا معنيين بمعالجة الأزمة أصلا، اللهم إلا تمني استعصائها. وهؤلاء على العموم شيوعيون أو جوالون على هوامش البيئة الشيوعية السورية، لم يرتاحوا في أي يوم لفكرة الديمقراطية. وهم كذلك قلما يعملون، ويجدون دوما ما يعيبونه على غيرهم. من الطيف المعارض، ثانيا، من تتحدد هويتهم بخصومتهم مع معارضين آخرين، يشكلون «آخرهم»، «إعلان دمشق» بخاصة أو التنظيمات والمجموعات التي بقيت ضمن الائتلاف. توجههم هذا يجعلهم غير مؤهلين سياسيا ونفسيا لمعالجة أزمة المعارضة. وهم عموما شيوعيون وقوميون عرب وناشطون جوالون حولهم. وقد داعب هذا الطيف فكرة تشكيل ائتلاف مختلف بعد انفصالهم عن «إعلان دمشق»، لكنه أحجم في النهاية. في المقام الثالث، هناك التنظيمات والأفراد الذين ظلوا في «إعلان دمشق». هؤلاء، والمعتقلون منهم، يجعلون من النظام «آخرهم»، ويشكلون استمرارا لتاريخ المعارضة والتزاما بمفهومها. و»بقايا وشم الحملة الغربية على العالم العربي» هؤلاء هم أيضا المعنيون بمعالجة أزمة المعارضة. فهل هم مؤهلون للتصدي لها؟ إنهم أيضا القوى الأكثر معاناة من أزمة هوية لكون أكثرهم شيوعيين وقوميين عرب سابقين ومراجعين، دون أن يتبلور لهم توجه فكري واضح بعد (يصفهم خصومهم بأنهم «ليبراليون»، وهذا لا يعادل عندهم غير نعتك خصمك بأنه شيوعي قبل خمسين عاما). ولعل التقاء أزمة الهوية مع أزمة العمل المعارض الراهنة يسوغ التحول نحو سياسة دفاعية تشغل إعادة بناء الذات محورها. وفي أساس سياسة كهذه يتعين إعادة النظر في العتاد الفكري السلطوي أو الاستبدادي الموروث وتطوير ثقافة انشقاقية مضادة لإيديولوجية الممانعة، وكذلك في العتاد التنظيمي الذي إما أنه نَفوذٌ أصلا لتأثير الروابط العضوية الموروثة وإما أنه آل إلى امتصاص أخبث خصائصها البنيوية وإلى مماثلتها فكريا.
بعد طور أول من أطوار عمل موجة المعارضة الراهنة، بدأ في عام 2000 وانتهى بتشكل «إعلان دمشق» في خريف 2005، وغلب فيه التوجه الإصلاحي؛ وطور ثان انحازت فيه المعارضة السورية إلى التغيير، ونصطلح أن الأزمة التي تفجرت بعد انعقاد اجتماع المجلس الوطني في نهاية العام الماضي هي نقطة نهايته؛ يتلامح اليوم طور ثالث، سيكون من المناسب أن يتحرر من التمركز حول مسألة السلطة، إن إصلاحا أو تغييرا، ليتحول نحو إعادة بناء حركة المعارضة ومفهومها. التقدير الشخصي لكاتب هذه السطور هو أنه لا مخرج قريبا من أزمة المعارضة السورية. سبق الكلام على اكتهال عام فيها. سبقت الإشارة أيضا إلى أجواء موبوءة في الوسط المعارض نفسه. كذلك سبقت الإشارة إلى حضور «سياسة المشاعر». هذه عوامل ثلاثة تجعل المعارضة مشدودة إلى الماضي. بينما يحتاج الخروج من الأزمة إلى توجه نحو المستقبل. وإذا تذكرنا ما تكلمنا عليه في الحلقة الأولى من هذه المقالة من أزمة مزمنة وبنيوية، تمد جذورها في بنى السلطة والثقافة وصيغ الانتظام الاجتماعي القائمة في سورية منذ نحو نصف قرن، فهمنا أكثر وأنصفنا أكثر تعذر خروج قريب من أزمة المعارضة السورية. إذ يبدو أن مشكلات الزمنية القصيرة (اعتقالات، انقسامات، تغير موازين القوى النسبية بين السلطة والمعارضة..) تلتقي مع مشكلات الزمنية المتوسطة (مزيج من الكوربوراتية «المؤسساتية» والأهلية في المجتمع، تقادم العتاد الفكري والتنظيمي للمعارضة، الاكتهال وقلة الشباب، تجدد شرط «الدولة الخارجية» أو التوافق البنيوي بين الاستبداد المحلي والخارج الغربي) لتجعل الخروج من الأزمة غير متاح من دون تأسيس فكري وسياسي وتنظيمي جديد للعمل العام في سورية. هذا أمر يستغرق سنوات طويلة. وهو يدرج تعافي المعارضة من أزمتها ضمن تعافي سياسي عام في البلد، يشكل تغيير النظام السياسي في اتجاه ديمقراطي وجهه الآخر. نريد القول إن معارضة جديدة ناهضة غير ممكنة من دون نظام سياسي جديد في سورية. وهما معا وجهان لتجديد شباب سورية وتجاوز الشيخوخة العمرية والفكرية والسياسية التي تهدد بإعدام مستقبل هذا البلد الفتي.كأن جيلا عمريا وسياسيا وفكريا يُطوى. وكأنما لا مناص من ذلك. * كاتب سوري