هل نعلن وفاة الحل القائم على دولتين؟
يتعين على واشنطن أن تحاول دمج سورية وإيران في حل إقليمي من شأنه أيضاً أن يحدث تغيرات جوهرية في الظروف لمصلحة الإسرائيليين والفلسطينيين، وأن تفرض حل الدولتين على الأطراف المعنية، الأمر الذي سيتطلب قدراً عظيماً من العزم والتصميم.
منذ تأسيسها في عام 1948 خاضت دولة إسرائيل سبع حروب ضد جيرانها، بما في ذلك حربها الأخيرة في غزة. وإذا ما أضفنا إلى القائمة الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية في الأراضي المحتلة فإن الإجمالي يرتفع إلى تسع حروب.من منظور عسكري بحت، نستطيع أن نزعم أن إسرائيل كسبت هذه الحروب كلها في النهاية، أو على الأقل لم تخسرها. بيد أن هذه الحروب لم تغير الكثير بالنسبة لإسرائيل على المستوى الاستراتيجي. فقد ظل الصراع المركزي بين إسرائيل والفلسطينيين بلا تغيير يذكر طيلة الأعوام الستين الماضية.
إن خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة في عام 1947، والتي قضت بتقسيم فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني بين العرب واليهود، لم تكن مقبولة ومازالت غير مقبولة حتى يومنا هذا. فأحياناً يرفضها جانب؛ وأحياناً يرفضها الجانب الآخر. ولهذا السبب مازال الناس من الجانبين يموتون حتى اليوم.لا شك أن إسرائيل صنعت «سلاماً بارداً» مع مصر والأردن، كما أقامت علاقات دبلوماسية مع بضع دول عربية أخرى، ولكن لم يتغير شيء حقاً في جوهر الصراع، على الرغم من عملية أوسلو للسلام التي دارت أثناء التسعينيات، وغيرها من المعاهدات والاتفاقيات مع الفلسطينيين. ويظل السؤال المركزي بالنسبة لكلا الجانبين بلا إجابة: أين تنتهي إسرائيل وتبدأ فلسطين؟سوف يستمر الصراع إلى ما لا نهاية ما لم يتم التوصل إلى تسوية إقليمية بين إسرائيل والفلسطينيين، ذلك أن كلاً من الجانبين يعتبره صراعاً من أجل البقاء. والأطراف المعنية كلها تدرك في النهاية أن حدود يونيو 1967- بما في ذلك القدس، بالإضافة إلى تبادلات أضيق نطاقاً للأراضي تتم من خلال التفاوض- من الممكن أن يتقبلها الطرفان رغم أنها قد تكون مؤلمة. وكل ما عدا ذلك فهو من قبيل التفكير غير العقلاني الشرير الذي لن يسفر إلا عن إهدار المزيد من أرواح الأبرياء.ولكن في حين أنه من الواضح أن إسرائيل لن تختفي من على ظهر الأرض وأن الفلسطينيين لن يرفعوا الراية البيضاء، فإن الظروف التي قد تسمح بتبني الحل القائم على دولتين آخذة في التدهور. لقد استغرق الأمر أربعة عقود قبل أن تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بوجود إسرائيل. ولكن بعد انتصار «حماس» على «فتح» عاد الفلسطينيون إلى نقطة الصفر، أي إلى رفض الكيان الذي تأسس في عام 1948. فـ «حماس» ترفض أي سلام مع إسرائيل، وهي غير مستعدة في أفضل الافتراضات لأكثر من الموافقة على هدنة مؤقتة. فضلاً عن ذلك فإن «حماس» باعتبارها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين تسعى إلى فرض أجندة إسلامية بدعم من سورية وإيران.أما إسرائيل فقد سمحت من جانبها بوجود ما يقرب من مئتي ألف مستوطن على أراضي الضفة الغربية، وبات التوسع المستمر في بناء المستوطنات يشكل ثِـقَلاً أعظم من كل الكلمات النبيلة عن قيام دولتين. ونظراً للحقائق التي فرضتها إسرائيل على الأرض فهناك من الشكوك المبررة ما يجعلنا نتساءل ما إذا كان الحل القائم على دولتين ممكناً على الإطلاق.والحرب في غزة من شأنها أن تزيد من حدة هذا الاتجاه السلبي. فهناك أمر واحد نستطيع أن نجزم به على نحو يكاد يقترب من اليقين ألا وهو: أن الخسائر السياسية على الجانب الفلسطيني ستشمل الرئيس محمود عباس و«فتح»، بعد أن يصبح فقدانهما لشرعيتهما غير قابل للإصلاح.وأياً كانت الحال التي ستنتهي إليها «حماس» على المستوى العسكري بعد الحرب الأخيرة في غزة، فإنها تمكنت على المستوى السياسي أخيراً من الاستيلاء على دور منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للفلسطينيين. وهذا يعني أن السياسة التي يصر عليها الغرب في عزل «حماس» من أجل إضعافها، وهي السياسة التي تبناها منذ فوز «حماس» بانتخابات حرة نزيهة في عام 2006، قد منيت بالفشل الذريع. ولكن مسألة الحل السياسي ستعود إلى الظهور بعد أن تصمت الأسلحة ويُـدفَن الموتى في غزة. والتوصل إلى هدنة أولية عن طريق الوساطة الدولية من شأنه أن يؤدي إلى هدنة مراقبة طويلة الأمد، ثم إعادة بناء غزة. ولكن ماذا بعد ذلك؟لن يصبح بوسع إسرائيل ولا الغرب تأجيل النظر في مسألة كيفية التعامل مع «حماس»، وذلك لأن الحال التي بلغها عباس و«فتح» من الضعف والافتقار إلى المصداقية لن تسمح لهما بالتفاوض على تسوية سلمية. ولا يوجد حل سهل لهذه المعضلة. إذ إن «حماس» ستكتسب بدخولها في المفاوضات وضعاً قانونياً بينما تستمر في موقفها المعلن في إصرارها على تدمير إسرائيل.أم هل ينبغي لنا في الواقع الفعلي أن نقبل موقف «حماس» بأن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين ضرب من المستحيل، وبالتالي فإن محادثات السلام لا معنى لها؟إن قبلنا ذلك فلن يكون بوسعنا إلا أن نكتفي بترتيب هدنة إلى أن تندلع الأزمة المقبلة. ولكن هذا من شأنه أن يجعل من أي حل قائم على دولتين قضية خاسرة. ورغم أن «حماس» ربما خسرت عسكرياً، فإنها بهذا تكون قد حققت نصراً سياسياً.إن البديل للحل القائم على دولتين يتلخص في استمرار الصراع وتكريس الواقع المتمثل في وجود دولة واحدة يشكل الفلسطينيون فيها- عاجلاً وليس آجلاً- أغلبية بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وبالنسبة لإسرائيل والفلسطينيين فإن هذا يُـعَد وضعاً رهيباً سواء من المنظور الاستراتيجي أو الإنساني. بل إنه في الحقيقة وضع ميئوس منه.إن أي محاولة لإخراج الطرفين من هذا الطريق الاستراتيجي المسدود الذي قادا نفسيهما إليه لن يتسنى لها النجاح إلا إذا أتت من الخارج. أولاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تحاول دمج سورية وإيران في حل إقليمي من شأنه أيضاً أن يحدث تغيرات جوهرية في الظروف لمصلحة الإسرائيليين والفلسطينيين. ثانياً، يتعين على الولايات المتحدة أن تفرض حل الدولتين على الأطراف المعنية، الأمر الذي سيتطلب قدراً عظيماً من العزم والتصميم، فضلاً عن الحفاظ على وحدة الجهات الدولية الفاعلة الرئيسية.إذا ما فشل الحل المفروض، فإن المنطقة برمتها ستبدأ في الانزلاق إلى مواجهة خطيرة أثناء الأعوام الأولى من رئاسة باراك أوباما. ولن تقتصر هذه المواجهة على الإسرائيليين والفلسطينيين.* يوشكا فيشر وزير الخارجية الألماني الأسبق.«بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»