انتشر في الفترة الأخيرة مصطلح «المال السياسي»، ويحتاج الأمر إلى تحديد معنى ومغزى هذا المصطلح.

Ad

بصورة عامة إن استخدام مصطلحات بعينها في فترة زمنية معينة وضمن سياق أحداث ووقائع، له مفهوم يتعلق بذلك بالواقع وظروفه.

المال السياسي يعني استخدام المال لأغراض وأهداف سياسية، ولما كان ولايزال للسياسة دور رئيس في حياتنا ويزداد ذلك الدور باستمرار، فإن ارتباطها بالمال يجري على أكثر من صعيد ومجال، وأغلب استخدامات المال في السياسة هو في حقيقته عبث سياسي في مجتمعاتنا العربية، كأن تستخدمه السلطة في الدعاية لنفسها أو لتثبيت وجودها، أو أن يستخدم المرشحون المقتدرون مالياً المال رشوة في الانتخابات النيابية والبلدية بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى لو كان القانون يجرّم مثل ذلك السلوك، ولأولئك وسائلهم لاستخدام المال ثانية لمنع تجريمهم.

لقد استخدمت دول عظمى المال السياسي ضد أعدائها في الداخل والخارج، وانهارت دول ومؤسسات بفعل استخدام المال السياسي، فالمال وسيلة يستخدمها الإنسان في حياته، لكن هذه الوسيلة لها جوانب سلبية وإيجابية، فبعض الذين يملكون المال يستخدمونه لمصالحهم، وهو عصب الرشوة التي دخلت جوانب عديدة في حياتنا، حتى في القضاء أحيانا، ليتحول الجاني إلى مجني عليه، والظالم إلى مظلوم.

ومادمنا هنا نركـز على المال السياسي، فإننا في هذه المقالة سنركـز عليه أكثر من غيره، ونتساءل: لماذا يتسابق الأثرياء اليوم أو بعضهم حتى تكون لهم صحف يومية، وفضائيات ويغدقون عليها أموالاً أكثر من إيراداتها؟!

نفهم أن بعضهم له أغراض اقتصادية، لكن هناك من له أيضاً أغراض سياسية، وإذا أردنا أن نصف مجالات استخدام المال السياسي فيأتـي في مقدمها المال الحكومي نظراً لتمكنها وسيطرتها على الدخل والإنفاق، ولديها من القنوات والوسائل وكذلك المبررات لتوزيع جزء منه لكسب الولاء أو الأنصار لتأييد مواقفها وسياساتها، أو مكافأة لبعض الذين تطوعوا ليكونوا ملوكاً أكثر من الملوك أنفسهم.

وهنا نحن نتكلم عن الاستخدام السلبي للمال السياسي، لأنه قد يكون هناك استخدام إيجابي للمال السياسي من قبل الحكومة أو غيرها. ويأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية والتأثير المال السياسي للأحزاب السياسية.

لقد تمكن بعض التنظيمات السياسية من مؤسسات مالية مهمة حكومية أو خاصة، وأصبح لديه ثروة كبيرة يستخدم جزءاً أساسياً منها في تعزيز وجوده وتأثيره في الساحة السياسية، كأن يصرف مبالغ طائلة على الانتخابات النيابية وغيرها من دون أن يقول له أحد من أين لك هذا؟! وفي عصرنا على رأس تلك التنظيمات والحركات تأتي القوى الدينية السياسية.

وفي المرتبة الثالثة يمكن إدراج أموال المؤسسات الخيرية واستخدام بعضها لأهداف سياسية، خصوصا تلك المرتبطة بتنظيمات سياسية دينية، فتصرف بعض تلك الأموال على الأنصار وعلى الإعلام لغير أعمال الخير، وعلى تنفيع بعض العاملين بها حتى لو كان نشاطها ليس من صميم أهدافها، وليسمح لي القارئ أن أروي له قصة قصيرة حدثت لي في الصيف الماضي، فقد أعلنت عن عزمي تأجير منـزلي، واتصل بي شخص، وقابلته مساءً وكان شاباً في العشرينيات من العمر مظهره يدل على أنه ملتزم دينياً، وقال نريد تأجير البيت، ونستخدمه نادياً لمدة ثلاث ساعات يومياً، وندفع الإيجار الذي تطلبه سنوياً مقدماً، فلدينا ما بين ستين إلى ثمانين شاباً من هذه المنطقة أعمارهم ما بين أربعة عشر إلى ثمانية عشر سنة، نقدم لهم محاضرات دينية ويلعبون كرة القدم في الساحة المجاورة، عندها قلت له يجب أخذ موافقة وزارة الشؤون ثم الجيران، فقال لا حاجة إلى موافقة الشؤون لأن لدينا بيوتا مؤجرة في مناطق أخرى من دون موافقتها، ثم أنت تبلغ الجيران وتأخذ موافقتهم! فقلت له آسف لا أرغب في تأجير البيت بهذه الطريقة... إن هذه القصة تدل على تجنيد الشباب المراهق لنشاطات قد تكون حزبية، والأموال التي تصرف على الإيجارات والنشاطات هي من أموال المتبرعين والإيـحاء لأولياء الأمور الشباب بأن مثل تلك النشاطات تحفظ الشباب من التسكع في الشوارع، وإبعادهم عن الانحراف إلى المخدرات وغيرها!

ثم يأتي المال السياسي للقطاع الخاص، وهذا دوره محدود في وقتنا الحاضر نتيجة تراجع الدور السياسي للقطاع الخاص، ولذلك أسباب عديدة لا مجال لذكـرها هنا، لكن هناك أفراداً ربما دخلوا مجال التجارة متأخرين، والذين يسمون بالطارئين على المجال التجاري، جاءتهم ثروة لم يحلموا بها استخدموا بعضها لشراء ذمم عدد من الناخبين، ودفعوا الرشوة من أجل موقع سياسي أو غيره، ونسمع ونقرأ عن حالات أُحيلت إلى المحاكم بسبب ذلك الاستخدام للمال الشخصي سياسياً. ولما كان ولايزال في عصرنا تأثير النشاط الإعلامي أساسياً، فلم يتورع كثيرون من الصرف السخي على مجالات الإعلام، خصوصا الفضائيات والصحف من أجل أغراض وأهداف سياسية، مثل الإعلانات في الصحف أو تأجير بعضهم كتّاباً يناصرونهم، أو الصرف على البث الفضائي المؤقت والدائم لأغراض سياسية قد تلبس غطاء لا علاقة له بالسياسة.

ونخلص من طرح هذا الموضوع، إلى إننا نعيش عصراً يحتاج إلى الوعي السياسي لمواجهة الاستخدام السيئ والسلبي للمال السياسي، ولكن مع الأسف، فإن الوعي السياسي في تراجع مستمر، وهناك مؤشرات كثيرة على ذلك التراجع لدى قطاعات واسعة من الناس، ونترك الاستنتاج لفطنة وذكاء القارئ الذي ينبغي أن يشاركنا معرفة الحقيقة بالتفكير.

إن استخدام المال السياسي أخذ واتخذ أبعاداً خطيرة ظاهرة ومستترة مباشرة وغير مباشرة تتطلب الوعي... والوعي مع الأسف الشديد في غرفة العناية المركـزة!

هو حديث شيق، ولكنه مؤلم قد نعود إليه ثانية، لأن مقالاً كهذا لا يكفي لبحث إشكالية المال السياسي واستخداماته.