كثيراً ما تردد على ألسنة السياسيين المنخرطين بالعملية السياسية أو المعارضين لها شعارات ظلّت غامضة ومثيرة وغير محددة في الكثير من الأحيان، أو لم تتحول إلى برامج عمل عملية، مثل «المصالحة» و«إعادة الأعمار» و«المستقبل»، لكن هذه العناوين المثيرة للجدل وذات الإشكالية النظرية والعملية، لاسيما من زوايا النظر المختلفة، تحوّلت في مدينة واترلو في كندا وبمشاركة نخبة متميّزة من الأكاديميين والممارسين، إلى مدارات بحث جدّية، تمّ فيها عرض أفكار وتصوّرات أكاديمية من خلال دراسة معمّقة للواقع بهدف استشراف رؤية مستقبلية.
الملتقى الفكري-الأكاديمي التأم بدعوة من المركز الدولي للحاكمية «الحوكمة» أو «الحكم الصالح»، وهو مركز مضى على تأسيسه 7 سنوات ونظم فاعليات وأنشطة مهمة، كما شارك في التحضير والتنظيم جامعة واترلو، وحضره مختصون في قضايا الشرق الأوسط وسفراء سابقون وخبراء وباحثون في قضايا التنمية والسياسة والاقتصاد والقانون.جدير بالذكر أن المركز الدولي سبق له أن نظم في صيف العام الماضي 2008 ملتقى فكريا مهما حول قضايا الإسلام والعلاقة مع الآخر، وذلك في مقر البرلمان الكندي في مدينة أوتاوا، ولقي الملتقى اهتماماً كبيراً من خبراء وباحثين ومشتغلين على قضايا حوار الحضارات وتفاعل الثقافات، والمشترك الانساني، إضافة إلى السفراء العرب والأجانب وأنشطة إعلامية كندية وعربية.ولكن ما الذي يدفع كندا تحضير هذه الفعالية الفكرية-الثقافية حول العراق؟ أوليست هي جزء من المنظومة الغربية بشكل عام؟ وإذا كان الجواب بالايجاب بشكل عام، فإن هناك بعض الخصوصيات، التي تحاول كندا تمييز نفسها عن تلك المنظومة، فهي لم تشارك أساساً في إرسال قواتها إلى العراق وامتنعت عن تأييد قرار الغزو، طالما لم يحصل على موافقة الأمم المتحدة، كما أنها بعيدة عن مشروع سياسي خاص بها في العراق أو في الشرق الأوسط، ولعل هذا الموقف يذّكر بموقفها المتحفظ في الستينيات من فرض الحصار على كوبا خارج نطاق الأمم المتحدة في نطاق ما أطلق عليه لاحقاً «أزمة خليج الخنازير».وإذا كان نشاط الجماعات الموالية لإسرائيل واسعاً ومتشعباً في كندا، فإن تحركاً جنينياً عربياً ومسلماً لايزال بحاجة إلى كثير من الدعم والمساندة في كندا، لاسيما من الجهات العربية الرسمية، الأمر الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار عند الحديث عن قضايا الشرق الأوسط، بما فيها مستقبل العراق، وهنا لا بدّ من ذكر بعض الحقائق التي تناولها الملتقى وتوقف عندها بجدية، وهي: 1- التحسن الملحوظ في الوضع الأمني في العام ونيّف الأخير، وهو وإنْ كان بحاجة إلى تعزيز وترسيخ، فإن هناك بعض الثغرات والمثالب والهشاشة التي تعرّضه إلى الاختراقات.2- توقيع الاتفاقية العراقية-الاميركية، الأمر الذي نقل الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي منظم في اتفاقية دولية مودعة لدى الامم المتحدة.3- وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض مؤكداً وعوده عشية حملته الانتخابية بالانسحاب من العراق خلال 18 شهراً (مضى منها 3 أشهر)، الأمر الذي يرتب استحقاقات جديدة، وقد تنشأ معه اصطفافات جديدة على مستوى السلطة ومعارضتها.4- إجراء انتخابات المحافظات والأقضية والنواحي، التي عكست هدوءاً كبيراً، وكانت نتائجها إيجابية للقوى التي لم ترفع الشعارات الطائفية أو التي رفعت شعارات وطنية عامة.5- استمرار جدل الهويات حتى إن اتخذ أحياناً طابعاً صراعياً بين هوية جامعة عامة، وهويات فرعية، بين شمولية وخصوصية، بين احترام الهوية الخاصة في إطار الهوية الوطنية، مع تأكيد وجود روافد بين هويات متفاعلة ومتخالقة لهوية عليا.لكن هذه الحقائق في الوضع العراقي تستدعي فحص وتدقيق اتجاهاته ومشكلاته الاساسية، لاسيما استمرار وجود العديد من القوى السياسية خارج العملية السياسية، بل في تعارض شديد معها. وفي الوقت نفسه استمرار الجدل والصراع حول الدستور الدائم وتعديلاته وعقده وألغامه، وهي مشكلات لاتزال حتى الآن مؤجلة وقد تنفجر في أي لحظة. كما أن مشكلة العقود النفطية ومستقبل الثروة النفطية الذي كان مثيراً للالتباس في الدستور ومن الناحية العملية، خصوصاً بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية (المركزية) لايزال مستمراً، وتبقى مشكلة كركوك قائمة وبدون أفق للحل، لاسيما التعاكس والتدافع بشأن صلاحية أم انتهاء مفعول المادة 140 من الدستور، ولعل الجميع يتحفظ على مقترحات دي مستورا ممثل الأمم المتحدة في العراق، ثم هناك إشكالات حول صلاحيات الأقاليم التي طالب رئيس الوزراء نوري المالكي بتعديل الدستور ليضمن سلطات «مركزية» أهملها الدستور الحالي حين وضعها بيد السلطات الاقليمية على حساب سلطات الدولة الاتحادية المركزية، وهو ما تعارضه الكتلة الكردية.ولعل انتخابات نهاية العام الجاري 2009 ستكون مجسّاً حقيقياً لمدى قوة ونفوذ الكتل والائتلافات السياسية، التي تبدو قلقة لاسيما من انتخابات المحافظات، التي كانت بعض نتائجها ومؤشراتها مختلفة عن الانتخابات النيابية العام 2005.وإذا كان الاحتلال هو أبرز وأهم التحديات التي جاء على ذكرها بأبحاث ودراسات عدد من المشاركين في الملتقى، فإن الموضوع الطائفي والمسألة الفدرالية وقضية الإرهاب الدولي وانفلات العنف وضعف وعدم تأهيل المؤسسة العسكرية حتى الآن، ومخاطر التفكك بسبب وجود الميليشيات التي انضم بعض عناصرها إلى الجيش والقوى الأمنية، فإنها شكّلت مرتكزات للنقاش باعتبارها تحديات كبرى يتوقف على حلها استقرار الوضع العراقي، ثم هناك مسألة الفساد الإداري والمالي ونهب وتبديد المال العام واستمرار مشكلة الخدمات دون حل جذري حتى الآن، مثل انقطاع التيار الكهربائي ومشكلة الماء الصافي وشحة الوقود واستمرار تفشي البطالة التي تبلغ أكثر من 50% حسب إحصاءات الأمم المتحدة ومشكلة اللاجئين والنازحين خارج وداخل العراق، والذين زاد عددهم على 4 ملايين، رغم عودة البعض منهم إلى مناطقه بعد تحسن الوضع الأمني إلاّ أن المشاكل الأساسية التي يعانونها لاتزال مستمرة.واستحوذ النقاش على حيّز غير قليل من مشكلة الأقليات ومعناها ومفاهيمها في إطار التعددية والمساواة وحقوق الإنسان، خصوصا الأقليات القومية والدينية، الأمر الذي طرح إعادة النظر بالخارطة السياسية العراقية وتركيباتها الحالية، لاسيما التي تم الترويج لها عبر العقدين الماضيين، خصوصاً بعد الاحتلال، والتي اعتمدت إما على مفهوم خاطئ للأغلبية والأقلية وإما على تعويم الأغلبيات ليصبح الجميع أقليات، وذلك بالتأكيد إن الأغلبية التي عليها حماية حقوق الأقلية تأتي من صندوق الاقتراع وليس عبر افتراضات مسبقة تذهب إلى تطييف المجتمع، وهو ما دعا لطرح مفهوم المواطنة في الدولة العصرية واعتماده معياراً أساسياً لمستقبل العراق، وهذا يتطلب إجراء مصالحة سياسية على أساس المشترك والولاء الوطني في إطار الدائرة العربية والبعد الإسلامي والفضاء الإنساني، وهو ما يضع مسألة إشكالية العلاقة مع دول الجوار على بساط البحث كجزء من حل شامل للمسألة العراقية يقوم على انسحاب دولي وتعهد إقليمي بعدم التدخل وخطة عالمية لإعادة الاعمار.لا بدّ من الاعتراف أن الملتقى ما كان له أن يحقق هذا القدر من التنوّع والحيوية لولا معرفة وخبرة السفير مختار لماني والجهد المضني الذي بذله لتأمين نجاحه ومساعدة الدكتورة بسمة موماني من جامعة واترلو. وكان أبرز المتدخلين بيتر سلوغلت (جامعة أوتا) وديفيد كامرون (جامعة تورنتو) وماك لميسكي (من الفيدرالية) وديفيد رومانو (كلية روديس) وميتو لكرنزي (جامعة أوتاوا) وجوزيف ساسون (جامعة جورج تاون) والسفير مايكل بيل (جامعة ويندزور) وجون باكر (جامعة اسسكس) وريكس برنين (جامعة ميغيل) وماريا جولي زهر (جامعة مونتريال) وكاتب السطور عبد الحسين شعبان (المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني) الذي كانت مداخلته: العراق بعد 6 سنوات من الاحتلال «جدل أم صراع الهويات: إشكاليات المواطنة والدولة في العراق».ونظم الملتقى في الختام مائدة مستديرة بعنوان: مستقبل العراق: كانت أبرز حلقاتها تتعلق بالعلاقة مع دول الجوار، وتأثير مجيء الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض على مستقبل العراق وما الحاجات الاساسية لتعزيز الأوضاع الأمنية داخلياً؟ وما الالتزامات الحكومية إزاء اللاجئين والنازحين والعواقب التي قد تنتج من عدم حل مشكلاتهم؟ وأخيراً ماذا على كندا أن تفعل للمستقبل العراقي؟!ولعل أسئلة بهذا المستوى لا ينبغي أن تكون محصورة في الجانب الأكاديمي والبحثي فحسب، وفي كندا بالذات، بل هي بحاجة إلى تلاقح عروبي ومسلم يشارك فيه كل من موقعه نخب من شتى الاختصاصات تقدم خبراتها وتصوراتها، عسى أن تكون عوناً لحلول سلمية وناجعة للأوضاع العراقية وللتخفيف من معاناة المجتمع العراقي ونزيف الدم الذي ظل مستمراً لسنوات طويلة، بتأمين مستلزمات حل عراقي وبإرادة عراقية وبمساعدة المجتمع الدولي والعربي والإقليمي. * كاتب ومفكر عربي
مقالات
المستقبل العراقي: الأسئلة الأكاديمية الحارقة!!
01-05-2009