احتفالية التنوير... إرث المستقبل أشرقت من الكويت

نشر في 22-12-2008
آخر تحديث 22-12-2008 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري كانت احتفالية التنوير التي حملت عنوان «التنوير... إرث المستقبل»، حدثا استثنائيا بهيجاً، والتي عقدت في الكويت في الفتره من «15-16 ديسمبر 2008» على هامش الاحتفالية العالمية لعصر التنوير الإنساني بمناسبة مرور قرنين على انطلاق عصر «الأنوار/التنوير» في العالم، تلك الأنوار التي أيقظت أوروبا من سبات القرون الوسطى، وأخرجتها من ظلماتها المتراكمة، وحررت العقل البشري من عطالته، وأطلقت طاقاته ليكتشف ويخترع ويبدع ويصنع معجزات علمية وحضارية غيرت حياة الإنسان وجعلته يخترق حواجز الزمان والمكان التي كانت مستحيلة.

نظم هذه الاحتفالية، مركز الحوار للثقافة «تنوير» بالتعاون مع الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية، وهو مركز ثقافي تنويري أسسته مجموعة من المثقفين الكويتيين الساعين إلى تبني قضايا الإصلاح الديني والدفاع عن حقوق الإنسان وحريات الفكر والتعبير ونشر ثقافة المجتمع المدني، وقد أصدر المركز مجموعة من الإصدارات والنشرات: الإصلاح الديني والمجتمع المدني، والمرأه الإنسان والديمقراطية والليبرالية والعلمانية، والنقد الذاتي وإشكاليات الديمقراطية العربية، وله موقع إلكتروني www.kwtanweer.com.

قاعات الجمعية النسائية المزدانة بالشعارات التنويرية مثل «قيم التنوير هي قيم كونية لأنها تنطبق على الإنسان أينما كان» و«التنوير يعني الاستخدام الحر للعقل وتشكيل رأي عام مستنير في المجتمع» غصت بحضور جماهيري حاشد من مختلف الجنسيات والأعمار، ومن الشخصيات الفكرية والسياسية والأدبية والفنية، وكانت أشبه بتظاهرة تنويرية متعطشة ومتشوقة إلى نسمات وإشراقات «عصر الكويت التنويري الذهبي» الذي أفل، بحسب تعبير الكاتب علي أحمد البغلي، هذا الحضور الجماهيري الرائع دفع الكاتب الكويتي «د. شملان العيسى» إلى أن يتساءل: لماذا يهتم شباب كويتي، مثقفا ومستنيرا، بقضية التنوير في مجتمع تقليدي في مرحلة الانتقال للحداثه؟! ويجيب عن ذلك بقوله إن لذلك سببين: 1- ما يمر به الوطن العربي من عنف طائفي وحروب أهلية باسم الدين أو الطائفة أو المذهب، حيث يتم ارتكاب أبشع الجرائم الإرهابية، دفعت بالجماعات المستنيرة إلى الدعوة للاحتفال بعصر التنوير. 2- شعور مجموعة من الأكاديميين والمثقفيين والشباب بأنهم في الكويت يعيشون في حالة جمود فكري وعجز عن التأقلم ومتابعة المتغيرات الدولية المتسارعة في المجالات العلمية والثقافية والفنية.

لقد أحسن منظمو احتفالية التنوير بدعوة أحد الرموز الفكرية التنويرية الكبيرة الدكتور محمد أركون صاحب المشروع الفكري الكبير في إعادة قراءة التراث العربي -الإسلامي- منذ أكثر من ثلاثين عاما، بهدف إبراز وإعلاء النزعة الإنسانية «الأنسنة» فيه، ولقد كنت أحد المحظوظين بحضور هذه الاحتفالية الجميلة حيث تجلى فيها فرسان التنوير- شيوخا وشبابا- وفي مستهل الاحتفالية ألقى مقدم الأمسية الكاتب النشط «عقيل عيدان» كلمة موجزة جاء فيها: إن التنوير ليس امتيازاً لأوروبا بل إنه مشاع إنساني أو قيم كونية، وهو ما يجعل من هذه الاحتفالية مهمازا لطرح سؤال التونير العربي من جديد.

وبعد ذلك دُعي الكاتب البحريني «علي الديري» لإلقاء كلمة وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة «مي آل خليفة» نيابة عنها، وجاء فيها «التنوير هو هندسة للخروج من قصور عقولنا وأرواحنا وأجسادنا، ذلك القصور الذي يوهمنا إياه ظلام الطوائف والمذاهب والمرجعيات الدينية والإيديولوجية» وأضاف «التنوير استرداد الإنسان لنوره الخاص الذي يضيء به حقائق الوجود، والتنوير حركة خروج شجاعة من آلة إشراف الغير إلى إشراق الذات... إن خروج الإنسان عن أن يكون في آلة الطائفة والمذهب والمرجعيات الموتورة بالإيديولوجية والدين، يتطلب أن تكون ذاتك لك لا ذاتك في آلة» ثم استمتع الحضور بمعزوفة رائعة للموسيقار «الفريد جميل» عن «روح التنوير» ثم قام مدير الجلسة الدكتور محمد الرميحي بتقديم المحاضر الدكتور «أركون» لخص فيها مشروع أركون الفكري القائم على أداتي: التفكيك والتأويل، عبر ما سماه «الإسلاميات التطبيقية» في مقابل «الإسلاميات الكلاسيكية» موضحا ارتباط المحاضر لدرجة العشق بأبي حيان التوحيدي الذي عاش حياة بائسة انتهت بحرقه كتبه.

ارتجل «أركون» خطابه «ما هو التنوير؟ ولماذا؟ وكيف نحققه؟) واستحوذ على أسماع وأبصار الحضور، وحلق بهم إلى بدايات عصر الأنوار وإرهاصاته الأولى، وفي معرض المقارنة بين المسيرتين الإسلامية والأوروبية ذكرنا المحاضر بأن الإسلاميين كان لهم السبق في الاعتماد على العقل منتجاً لمعارف خدمت الإيمان الديني، وإعطاء الوسائل له للتفاعل مع العقل الفلسفي، وهذا ما سمح للعقل الديني الإسلامي بأن ينتج كمّاً معرفياً هائلاً في القرون الهجرية الستة الأولى، لكن المسيرة انقطعت بسبب التدخل السياسي للسلطة، وكان كتاب الغزالي «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة» إيذاناً بمرحلة الانقطاع، بينما استمر التنوير الأوروبي وتواصل عبر 3 مراحل إلى يومنا هذا، كما أكد أركون أن الوظيفة الأولى للعقل، نقد العقل نفسه فإذا تخلى عنها وتورط في مواقف إيديولوجية معينة اعتبر فاشلا، وهذا هو ما عرفه الفكر الإسلامي المعاصر، وأكد أن هدف التنوير الأسمى هو منح العقل البشري الحماية والحرية لمواصلة الإنتاج المعرفي لنفع الإنسانية جمعاء، لا أمة معينة.

وختم محاضرته بالحديث عن المرحلة الثالثة للتنوير الأوروبي بعد الحرب الثانية والاستعمار، حيث حرفت قيم الأنوار بتأثير من «المخيال الاجتماعي» داعيا إلى ممارسة الإسلاميات التطبيقية.

وفي أمسية اليوم التالي كان موعدنا مع فارسي التنوير د.توفيق السيف، ود. أحمد البغدادي، وبإدارة د.فايزة العوضي، أما الأول فهو باحث وكاتب وناشط وإسلامي تنويري سعودي، له العديد من المؤلفات التي تضيء الجانب الإنساني في الإسلام، ولعل كتابه المتميز «الحداثة كحاجة دينية» يعد خير تعبير عما أسميه تجسير الفجوة بين الفكرين الإسلامي والحداثي، وتكلم د.السيف بهدوء وموضوعية عن التيار التنويري في السعودية مبيناً إرهاصاته الأولى في أول مدرسة في مكة عام 1875، وأول مطبعة عام 1882، وأول جريدة 1908، لكنها كانت ومضات متقطعة بسبب التحالف السياسي بين السلطتين السياسية والدينية، مما أوجد فارقا كبيراً في الحالة التنويرية بين السعودية وغيرها من الدول العربية إلى بعد حصول الغزو العراقي للكويت، حيث تجرأ 400 ناشط إسلامي وقدموا «مذكرة النصيحة» فتعرضوا للتضييق، لكن في العام 2003 أعلن التيار التنويري نفسه في صورة وثيقة «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله» ولم تتعرض لهم السلطة، فكان مؤذناً بتحرك جديد، وحدد «السيف» مكونات تيار التنوير في 5 أصناف، وحدد اهتماماته في 5 قضايا هي: العقلانية، الحريات الشخصية، الشفافية وحكم القانون، مقاومة القسوسية القسرية، الدعوة للمساواة والتسامح، نبذ التعصب الديني، الهوية الوطنية، وحدد مهمة التنويريين في السعودية بالانتقال من الاحتجاج من السائد إلى المشروع البديل وتشجيع الجدل الضروري لدعم التراكم المعرفي، وتخليص حركة التنوير من هيمنة السياسة، والتركيز على التطور الاجتماعي الداخلي.

وفي حين أعطانا د. السيف أملاً في تنامي الفكر التنويري في السعودية، فإن فارس التنوير الكويتي الأبرز د.أحمد البغدادي ذهب إلى اتجاه معاكس في محاضرتة بعنوان «التنوير الناقص: الكويت نموذجاً» إلى أن الكويت لم تقترب من حالة «التنوير» وهي أبعد ما تكون عن ذلك، والصواب أن نقول إن الكويت في حالة تنوّر «وليس تنويراً»، وأرجع البغدادي الأمر إلى هيمنة الفكرة الدينية في بنية التفكير لدى الكويتي المسلم مكرراً بأنه لا فكاك من الدين والسلطة التقليدية الاستبدادية، مجدداً أمله في الأجيال الجديدة لعلها تنقل حالة التنوّر إلى التنوير.

ويبقى في النهاية أن نقول: لقد كانت أيام الاحتفالية أياماً بهيجة، أشرقت فيها سماء المنطقة، وسعد بها الحضور، وتجددت لديهم الآمال في غد أفضل فشكراً لمركز الحوار وشكراً لشباب التنوير.

* كاتب قطري

- تنشر بالمشاركة مع «الوطن» القطرية.

back to top