قبل تسجيل شهادة «شاهد آخر من أهله» من المفيد إلقاء الضوء على عدة نقاط لايزال يلفها الغموض، ولعل الأهم في هذه النقاط نصف المضيئة هي عملية انتقال «إدارة» الصحوة من القيادة العسكرية الأميركية إلى شيوخ القبائل والعشائر في منطقة الأنبار العراقية.

Ad

الصورة شبه الحقيقية لهذا الحدث هي أن هذا الانتقال لم يتمّ لأن «الصحوة» نجحت في تثبيت الأمن في المنطقة، بل جاء نتيجة لقرار أميركي بالتوقف عن الدفع. وكانت القوات الأميركية تنفق ما بين 200 مليون إلى 300 مليون دولار شهرياً على زعماء العشائر إلى أن طلعت أصوات في واشنطن تنادي بالتوقف عن الدفع أولاً لشحّة السيولة في الميزانية الأميركية، لأن الاعتمادات المخصصة لوزارة الدفاع «البنتاغون» لم تعد تحتمل مثل هذه النفقات، بالإضافة إلى الاعتمادات المخصصة لصرفها على بعض المشاريع الإنمائية السريعة ضمن برنامج كسب عقول وقلوب أهالي الأنبار. وقتها، أبلغت واشنطن من يعنيهم الأمر وأنها ستتوقف عن الدفع ابتداءً من شهر سبتمبر الحالي، لكنها، في الوقت ذاته، أكدت أنها ستبقى مسؤولة عن حماية أمنهم وأمن عائلاتهم من اعتداء خصومهم الكثر بدءاً من تنظيم «القاعدة»، ومروراً بتنظيمات النظام السابق المسلحة، وانتهاءً بالتنظيمات الشيعية ذات العلاقة الوطيدة مع إيران.

ثانياً أن الإدارة الأميركية باتت مقتنعة بأن في خزائن المال التابعة لحكومة المالكي ما يكفي لصرف رواتب وإعانات ومكافآت شيوخ الصحوة ورجالها. وقد مهدت واشنطن لاتخاذ خطوة التوقف عن الدفع، بتصريحات قالت فيها إن الاحتياط النقدي للعراق بلغ ما يزيد على 80 مليار دولار، وإن دافع الضرائب الأميركي إذا رضي أن يدفع ثمن «الحفاظ على الديمقراطية» في العراق من دم جنوده، فإنه لم يعد يقبل بأن يدفع من أموال مواطنيه.

إن التوقف عن الدفع قد وضع «صحوة» الأنبار وربما غيرها من الصحوات الأخرى في مهب عاصفة قد تعيد الأمور الأمنية إلى نقطة الصفر، خصوصا أن حكومة المالكي لاتزال تنظر بعين الريبة والشك إلى مشروع الصحوات، وترفض تمويلها كما ترفض بإصرار إدخالها ودمجها في القوى الأمنية بالشروط نفسها، مالياً وسياسياً، التي تعاقدت الصحوة على أساسها مع الجنرال بترايوس. وبذلك تكون الإدارة الأميركية قد خلقت مشكلة بدلاً من أن تحل عدة مشاكل حيث ينطبق عليها القول العربي الشائع: «ليتك لم تـَزنِ ولم تتصدقِ».

وبالرغم من كل ذلك فإن الإدارة الأميركية مصرّة اليوم أكثر من أي وقت مضى على تحويل الهزيمة العسكرية في العراق إلى نصر إعلامي. فالهزيمة هي في فشل الجيش الأميركي بكل ما لديه من رجال وعتاد وصواريخ عابرة للقارات من حسم الموقف العسكري في العراق لمصلحتها. بل على عكس ذلك فإن المعطيات الموجودة على الأرض تشير إلى أن الوضع الأمني في طريقه إلى البدء من درجة الصفر، بالرغم من تصريحات بوش في الأسبوع الماضي بأن النصر النهائي في العراق بات في متناول اليد. هذه التصريحات لم تكن سوى مساهمة منه في حملة «ماكين» الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض.

***

روري ستيورات Rory Stewart موظف سابق في وزارة الخارجية البريطانية. من العام 2003 إلى نهاية العام 2004 عينته قوى التحالف نائباً لحاكم إقليم ميسان وذي قار في الجنوب العراقي. وُلد في هونغ كونغ ونشأ في ماليزيا وخدم لفترة وجيزة في الجيش البريطاني ثم انتقل إلى السفارة البريطانية في إندونيسيا، ثم عُين ممثلاً لحكومته في موتنغرو (يوغسلافيا السابقة). وفي العام 2000 أخذ إجازة مدتها سنتين وتنقل سيراً على الأقدام من أفغانستان إلى باكستان إلى الهند ونيبال حيث قطع مسافة ستة آلاف كيلومتر لدراسة أحوال هذه المناطق وبصورة خاصة عادات أهلها وتقاليدهم وخلافاتهم الدينية والمذهبية. وبعد عودته مُنح جائزة الإمبراطورية البريطانية وانتقل للتدريس في جامعة هارفرد. مارس الصحافة وله مقالات مشهودة في «السانداي تايمز» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأميركية بالإضافة إلى عدد آخر من كبريات الصحف الغربية.

أخيراً، أجرت الـ«BBC» الفضائية مقابلة معه تحدث فيها عن تجربته في العراق. فيما يلي فقرات مهمة مما قاله في هذه الحلقة:

- تجربتي في العراق مليئة بالأوهام على حساب الحقائق. بالطبع كنت من مؤيدي الغزو نتيجة تجربتي في إندونيسيا والبلقان وأفغانستان، واعتقدت أن الغزو سيخلق حالة إنسانية مستقرة في العراق، كما فعل في تلك البلدان المذكورة أعلاه، وأن الخلاص من صدام عمل إنساني وخدمة كبيرة للإنسانية في العراق يمكن أن تنتقل إلى الجوار. وسرعان ما أدركت كم كنت مخطئاً. وقتها كنت أمثل الحكومة البريطانية كنائب لحاكم التحالف في ميسان وذي قار. وضع التحالف بين يدي عشرة ملايين دولار شهرياً كانت تسلم لي برزمات مغلّفة من فئة المئة دولار، وطلب إليّ أن أنفقها كما أريد على برنامج اصطلح على دعوته «كسب عقول وقلوب السكان». لكن البرنامج أثبت فشله التامّ منذ الشهر الأول. وبعد فترة استطعت ترميم «240» مدرسة صغيرة من أصل «400». لكن هذا لم يهدئ من ثورة وغضب السكان المحليين. ففي كل يوم تقريباً يجتمع مئات من الأهالي منذ الصباح إلى المساء بشكل تظاهرة حيث يهتفون: ماذا صنع التحالف لنا؟ على مدى الأشهر أيقنت عدم جدوى القيام بهذه الخدمات الصغيرة فاقترحت إيقاف البرنامج وتحويل هذه الأموال «لإقناع» بعض الأهالي. غير أن هذا لم يجدِ نفعاً. كانوا يأخذون الدولارات بابتسامة عريضة وفرح واضح غير أن لغة نظراتهم كانت تختلف. فهي مليئة بكل شيء خارج إطار الحب والاحترام والعرفان بالجميل. من المشاريع المهمة التي نفذتها إنشاء مدرسة نجارة في الناصرية لتدريب الشبان لردعهم عن حمل السلاح لكن سرعان ما أُقفلت هذه المدرسة لنفاد الاعتمادات المالية أولاً، ولهروب معظم الطلاب منها.

- ماذا نفعل الآن في العراق. أنا خبير في الشؤون الإنسانية وأعتقد جازماً بأن الوقت قد حان للانسحاب من هذا البلد، لأن وجودنا هناك هو المشكلة. فلنترك العراقيين يحلون مشاكلهم بأنفسهم وبأسلوبهم الخاص بعد أن رفضوا طوال خمس سنوات أسلوبنا وطريقتنا في مساعدتهم. ولو بقينا هناك 50 عاماً لما تغير شيء. ما فعلناه في العراق هو أننا حولنا الحرب الأهلية التقليدية إلى حرب أهلية غير تقليدية. وأنا مقتنع بأن هذا النوع من الحرب سيمتد إلى الجوار في حال استمرار وجودنا.

- ليس باستطاعتي التنبؤ بمستقبل العراق. من الصعب جداً أن نفهم العراق وجواره وقواه العسكرية والسياسية. فكيف نستطيع أن نعالج مرضاً لم نتمكن من تحديد هويته. في إقليم واحد، وبعد ثلاثة أشهر من احتلال العراق، ظهر على السطح 154 تنظيماً سياسياً يناقض ويقاتل كل منها الآخر.

- ليس باستطاعتي أن أضمن أن الوضع سيتحسن بعد الانسحاب. ففي بعض البلدان المشابهة دامت الحروب الأهلية فترة طويلة. لكن ما أستطيع أن أؤكده أن حكماً إسلامياً أو حكماً فردياً سينشأ بعد خروج قوات التحالف. هناك من يتحدث عن الاختيار بين الشر الأصغر والشر الأكبر. وفي المعضلة العراقية فإن الخيار سيكون شراً بحد ذاته. لكنني مقتنع بأن استمرار وجودنا سيزيد كمية ونوعية الشرور.

باستطاعتنا أن نحقق ضربة عسكرية قوية مؤقتة، لكن نشر 20 ألف جندي أميركي في بغداد وحدها لم يمنع استمرار الحوادث بصورة يومية. نعم لقد تناقصت هذه الحوادث لكن ليس هناك دليل واحد على أنها انتهت. فنحن بعيدون جداً عن السيطرة الكاملة على العاصمة.

- لم أعثر على دليل واحد يشير إلى أن أحدا ما من كبار رجال الشرطة أو الجيش مستعد للحديث معنا حول استتباب الأمن طالما نحن على أراضيهم.

- يبدو لي أننا لو انسحبنا اليوم أو بعد سنتين أو ست سنوات لن يُحدث انسحابُنا فرقاً مميزاً. الوضع سيبقى على حاله. ولا أجد أي مبرر للاستمرار في هكذا وضع حيث يَقتل جنودُنا يومياً العراقيين وحيث يُقتل جنودنا بأيدي العراقيين.

***

لعل ما قاله هذا الشاهد الحي من أهل بيتهم خير ردّ على تصريحات بوش المفرطة في التفاؤل.

* كاتب لبناني