قال عنه نجيب محفوظ إنه الأديب الذي يتكلّم كوميديا ويكتب مأساة... إنه يوسف القعيد الذي تحرّك سطوره سواكن القلب على أوجاع المجتمع. صاحب «شكاوى المصري الفصيح»، «يحدث في مصر الآن»، «أيام الجفاف»، «الحرب في بر مصر»، «بلد المحبوب»، «مرافعة البلبل في القفص»، {حكايات الزمن الجريح» وأعمال كثيرة تجسّد مسيرة زاخرة وثرية في المكتبة الإبداعية العربية... معه الحوار التالي.معظم أحداث أعمالك يدور في الريف، هل هو الحنين؟
القرية هي المدى المفتوح الذي تتداخل فيه الألوان، ليبصر المرء الأبعاد كافة، فالقرى خلقها الله أمّا المدن فابتكرها البشر. وأنا حزين لما يحدث فيها من تبدّلات شوّهت جمالها.
تدور أحداث روايتي الأخيرة «المجهول»، وهي قيد الطبع، في القرية، وأبطالها كما أبطالي كلهم عندما يرحلون من القرية إلى المدينة يفقدون هويتهم.
لمَ هذا الضياع في المدينة؟
جئت إلى القاهرة للمرة الأولى عندما جنِّدت في الجيش عام 1965 وفي داخلي اعتقاد راسخ بأني سأفقد شيئاً ما في المدينة وهذا ما حدث فعلاً، لذلك فإن الانتقال من القرية إلى المدينة رحلة مهمة في حياتي، وفي رواياتي يسبّب هذا الانتقال خللاً في الشخصية وقد يؤدي إلى ضياعها وفقدان هويتها.
أبطالك مهزومون دائماً، هل يعكس ذلك الأمر الواقع؟
تبدأ الكتابة الدرامية من منطقة الخطأ الإنساني الذي يولّد في أبطالي الشجن. وأنا من البشر الذين لم يشبعوا من أي شيء، لم أشبع من القرية وغريب في المدينة، وأبطالي لم يتحققوا بعد أو تحقق جزء من أحلامهم، وهذا يؤدي إلى شعوري بالمأساة... أنا شخصياً لم أتحقق بعد.
ماذا تعني بالتحقّق؟
أي أن تصل كلمتي إلى الناس وتغيّرهم إلى الأفضل. عندما كتب جون شتانبيك رواية «عناقيد الغضب»، ساعد في إرساء تشريع يحدد العلاقات بين طبقات المجتمع المختلفة، ورواية «كوخ العم توم» لهاربت ستاو تسببت بالحرب الأهلية الأميركية.
هل انتشر أدبنا واستطاع تغيير الواقع، وهل يتحقق التغيير بالهزيمة الداخلية والبكاء على الأطلال؟
جسدت أوضاع المصريين في كتاباتي، أشعرتهم بوجود كارثة ممتدة وأن عليهم التحرّك لمواجهة الخطر... وصول الرسالة ليس إنجازاً بل التغيير الذي تحدثه.
كيف يتحقق التغيير إن لم يرافق الرسالة حلم أو أمل؟
لا أرى أملاً، ولا أحب أن تكون رواياتي مصنعاً لتصدير أحلام كاذبة لأني متوافق مع رؤيتي وعصري.
تحكي «أيام الجفاف» قصة مدرّس يعيَّن في قرية نائية على حدود مصر ويصاب بالجنون ويكتب خطابات لنفسه. عندما تُرجمت هذه الرواية إلى الروسية كان رأي النقاد الروس أنه لا بد من أن يكون البطل إيجابياً، ويدخل في علاقة مع الواقع ويحاول تغييره، فيما أن رؤيتي في الرواية يغلّفها قدر رهيب من المأساوية.
في «بلد المحبوب» البطل عاجز عن مساعدة حبيبته (الوطن)، يشاهدها تغرق وهو يتفرّج!
تتمايل الرواية بين آخر تخوم الخيال وأول تخوم الواقع، لم أشرح لماذا سافر البطل وترك حبيبته لمدة 15 عاماً، وحتى بعد عودته لا يمكنه مساعدتها، ولماذا عاد، ولماذا أدمن انتظار أن يقوم آخر بالفعل بدلاً منه.
في رواياتك تتردد مقولة «طعنات أبناء جيلك»؟
تلقيت طعنات كثيرة مثل فكرة الصراع على فرص وهمية، والركض وراء ترجمات لا قيمة لها، لذا أقول: «كل منا يمشي وفي أسنانه قطعة كبيرة من لحم الآخر تنزف دماً، وجائز أن أكون جزءاً من هذه الظاهرة فأنا لست نبياً».
في «مرافعة البلبل في القفص» كنت تتمنى أن تكون الأجيال المقبلة أقل تعاسة منكم، كيف يتحقق ذلك؟
ليستفيدوا من تجاربنا ويتجنبوا الوقوع في أخطاء سيطرت علينا، ويفهموا إنجازاتنا... لكن أعتقد أنهم لن يفعلوا ذلك لأن ذاكرتهم ملعونة، وشعارهم «من منا لم يفكر في قتل المتفوّق عليه».
ماذا قدّم جيلكم للشباب؟
كتاباتي تكفي. عندما جئت إلى القاهرة للمرة الأولى، كان نجيب محفوظ الكاتب الوحيد الذي جلس معي في المقهى، لأن الكتّاب كلهم مشغولون ولا يمكن الحصول على أرقام هواتفهم!
هل عانيتم من الظلم؟
جيلنا لم يُظلم وأقصد هنا جيل الستينات، لكننا لم نحصل على حقنا في السبعينات. ما زالت الأضواء مسلّطة علينا ويقولون عنا «الأدباء الشباب» على رغم أني تخطيت الستين.
توقفت مصر عن إطلاق نجومها والموهوبين من أبنائها على رغم توافر المواهب. لم تعد «أم الدنيا» أماً لأبنائها، ونسيت أن أبناءها جزء منها.
هل قدّمت السينما أعمالك بحسب رؤيتك؟
كلا. قدمت السينما أعمالي مع تغييرات كثيرة في المضمون. عنوان «الحرب في بر مصر» استبدل بـ «المواطن مصري»، وبدل أن تكون حرب 6 أكتوبر محور الأحداث كانت عودة الإقطاع. أما «يحدث في مصر الآن» التي تدور أحداثها عام 1964، فأصبحت سينمائياً «زيارة السيد الرئيس». ولأن الرواية تتحدث عن زيارة نيكسون لمصر ولقائه مع أنور السادات، أصرّت الرقابة على حذف اسم الرئيس المصري والأميركي من الفيلم.
أعتبر مسلسل «وجع البعاد» أفضل أعمالي، وهو من بطولة صلاح السعدني، إخراج محمد عبد الحافظ وسيناريو مصطفى إبراهيم وحواره.