في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وبينما كان هتلر يحتل معظم أوروبا الغربية، ويطلق صواريخه وطائراته لتدمير العاصمة الإنكليزية، حتى تتم له السيطرة على القارة كلها... وبينما كانت الولايات المتحدة تقف موقف المتفرج من الحرب الدائرة في «العالم القديم»، كما كان يسميه الأميركيون في ذلك الوقت، مع «بيع» المساعدات العسكرية لبريطانيا تحت الطاولة، شنت الإمبراطورية اليابانية هجوماً دبلوماسياً كبيراً باتجاه واشنطن لتأخير انضمامها إلى الحرب إلى جانب دول الحلفاء تحت شعار المساهمة في السلام العالمي.

Ad

فتحت واشنطن ذراعيها وتلقفت هذا الهجوم الدبلوماسي وباشرت بإجراء مفاوضات سرية ثم علنية مع طوكيو، مع معرفتها بنوايا اليابان واستعداداتها لغزو مناطق النفوذ الأميركية في كل الأراضي الآسيوية. وبالرغم من صراخ هتلر وستالين من وراء الأطلسي: متى ستعترف الولايات المتحدة بوجود حرب في أوروبا ستصل إلى أراضيها، ومتى ستعترف أيضاً بوجود حلف سري بين ألمانيا النازية وحلفائها (دول المحور) وبين اليابان تتولى فيه الإمبراطورية الآسيوية، ذات الساعد العسكري القوي، مهمة شنّ الحرب على الولايات المتحدة... بالرغم من هذه الصرخات فإن الرئيس الأميركي روزفلت أغلق أذنيه عن سماعها، لأن أكثرية الأميركيين في ذلك الوقت كانت تؤمن بأن الحرب في أوروبا هي مشكلة أوروبية ولا علاقة للولايات المتحدة بها، وأن دروس الحرب العالمية الأولى التي اشتركت فيها أميركا ضد طمع وطموح القيصرية الألمانية لم تجلب للأميركيين سوى الدمار وقتل الملايين من جنودها.

في هذا الجو استمرت واشنطن في رفع شعار: قلبي على أوروبا، لكن سيفي لن يكون معها. ثم فتحت أذنيها لنداء اليابان السلمي الذي كان سبباً مضافاً لابتعادها عن الاشتراك بالحرب. غير أن اليابان كانت تضمر غير ما تعلن. ومن خلال تجميد الاشتراك الأميركي في الحرب، كانت تستعد عسكرياً لاحتلال المحيط الهادئ والوصول إلى قلب الأرض الأميركية. وعندما أكملت اليابان استعدادها، شنت الضربة الأولى القاسية ضدّ الأسطول الأميركي في هاواي، ودمرت «بيرل هاربور» بعملية مفاجئة كادت أن تقضي على القوة العسكرية الأميركية برمتها. وفي ديسمبر من العام 1941، وبعد أن تلقت الولايات المتحدة الضربة، أعلنت اشتراكها في الحرب بعد أن تبين لها أن «الغزل» الياباني استهدف فقط تهيئة هذه الضربة القاصمة للقوات البحرية الأميركية. وكتب التاريخ تفاصيل أول خديعة تقع الولايات المتحدة في براثنها.

هذه الملحمة التاريخية استوجبت التذكير والمقارنة لدى الإيرانيين اليوم. والمعروف عن الذاكرة الإيرانية انها قوية وحادة، فهي لم تنس إلى يومنا هذا معركة القادسية في التاريخ العربي عندما هزم العرب قوات الفرس التي كانت تحتل الأرض العراقية. وكانت هذه المعركة بداية انحسار قوة الإمبراطورية الفارسية، وكذلك بداية دخول الفرس في الدين الإسلامي.

أما اليوم، وبعد أن قدّم الرئيس الأميركي أوباما «وردة» إلى طهران مستغلاً الاحتفال الإيراني بعيد النيروز داعياً إلى فتح حوارات لحل المشاكل معها، استعادت الذاكرة الإيرانية ما حدث في خديعة «بيرل هاربور»، وأعربت عن قبولها وردة الحوار لحلّ المشاكل بالطرق السلمية، لكنها بقيت على حذرها الشديد من أن تقع فريسة خديعة دبلوماسية أميركية، كالتي وقعت فيها أميركا نفسها في الأربعينيات من القرن الماضي. ومن المؤكد أن طهران ستتصرف اليوم في ضوء تجارب التاريخ كما فعلت منذ قيام الحكومة الإسلامية في العام 1979. فهي لا تثق، ولا يمكن أن تثق بالمدى الحاضر والمستقبل بالنوايا الإيرانية. وهي- أي طهران- تعتبر أنها خاضت الحرب منذ قيام دولتها الإسلامية إلى اليوم ضدّ «الإمبريالية» الأميركية، وربحت معاركها الرئيسية. وها هي اليوم تقطف بعض ثمار هذا الربح. فالرئيس أوباما قدّم مع «وردة عيد النيروز» اعترافاً ضمنياً بحقوق إيران بأن تكون ضمن تشكيلة النادي الاستراتيجي الإقليمي كقوة عظمى. وهذا كان ضمن جملة المطالب التي دأبت طهران على السعي لتحقيقها. لكن الاعتراف الضمني لا يكفي، فالعاصمة الإيرانية بحاجة إلى أعمال لا أقوال بالإمكان العودة عنها في أي زمان. كذلك فإنها حريصة بألا تقع بالخطأ نفسه الذي وقعت فيه الولايات المتحدة عندما صدّقت أقوال اليابان المعسولة ثم ذاقت الأمرين من أفعالها.

إن عددا من المفكرين الإيرانيين شبه الرسميين قد انضموا إلى مجموعة المتشددين أصحاب العمائم في ضرورة الحذر اللامتناهي من الخطوة الأميركية. إن كل هذا يدلّ على أن الحوارات ستكون صعبة ومعقدة، لأن جسر البحث عن السلام ليس منثوراً بباقات الورد الأميركية. هذا إذا تجاهلنا «غياب» إسرائيل ومطالبها التدميرية واستعدادها للقيام بضرب إيران وحيدة في حال ظهور بوادر التفاهم الإيراني–الأميركي.

إن المفاوض الإيراني صعب ومعقد، ولقد أثبت ذلك على الأرض من خلال حواراته السرية مع النظام العراقي السابق في بداية القرن الحالي، ففي بداية التسعينيات، وبالتحديد بعد تحرير الكويت، فتحت بغداد صدام حسين قنوات سرية عديدة مع طهران. وكانت العاصمة العراقية تأمل، بل تهدف إلى إشراك طهران في معركتها لكسر الحصار الذي فرضته قوات التحالف إثر احتلال الكويت وخروج القوات العراقية منها بالشكل المعروف الذي خرجت به. إن هذه الكلمات ليست تاريخاً لهذه المرحلة السوداء، ولا كشفاً لأسرارها التي لم تكشف بعد، بل إنها تشكل نظرة في العمق على سيكولوجية المفاوض الإيراني وأسلوبه في المراوغة.

حاول الرئيس العراقي السابق صدام حسين، قبل وبعد إخراجه من الكويت، فتح قنوات حوار سرية مع طهران تحت شعار نسيان الماضي، وفتح صفحة جديدة مع الذين حاربهم طيلة ثماني سنوات، وقد عانى الأمرين في إقناع طهران بفتح هذا الحوار عبر جهازي المخابرات الإيراني والعراقي للتفاهم على «أجندة» تضع وراءها سنوات الحرب وما رافقها من دمار ومليون قتيل والانتقال إلى صفحة بيضاء ناصعة. وبعد أن «عذبوه» قليلاً وجدت طهران أن مجرد فتح هذا الحوار مع العدو اللدود يحقق ما قالته طهران بعد موافقتها على وقف إطلاق النار مع العراق في 1988 «يضحك كثيراً من يضحك أخيراً». كذلك يعطي المبرر الذي ساقه الخميني لموافقته على وقف النار: «إنه كأس مليء بالسم وسأجرعه». كلفت بغداد مدير مخابراتها الجديد دحّام التكريتي (أبو ليث) بملف التفاوض. زار دحّام طهران أكثر من مرة، وزار نظيره الإيراني بغداد أكثر من مرة. لكن في كل اجتماع كان الوفدان يتفقان على بند واحد على أن يتمّ الانتقال إلى بند آخر في اجتماع آخر، وعندما يعقد الاجتماع الآخر يعود المفاوض الإيراني إلى طرح البند الذي جرى التفاهم عليه... وهكذا سارت الأمور طيلة أكثر من سنتين دون الوصول إلى تفاهم على بند واحد ما عدا ضرورة استمرار الحوار. وفي العام 2002 استقال، أو أقيل أبو ليث من منصبه.

ربطتني بدحّام علاقة قديمة العهد تحوّلت إلى صداقة عائلية، بعد أن ترك منصبه، دعاني إلى غداء منفرد في منزل متواضع غير معروف العنوان خارج بغداد. تحدثنا بأمور وقضايا كثيرة. غير أن الذي لفت نظري قوله إنه مريض بتصلب في شرايين القلب، وإن مرضه ازداد حدّة بعد توليه مديرية المخابرات وبصورة خاصة نتيجة حواراته مع المفاوضين الإيرانيين. ثم انتهى إلى القول بحزن وأسى بالغين: اثنان ساهما في إصابتي بهذا المرض الذي قال الأطباء إنه قد وصل إلى مرحلة متقدّمة... صدّام وأسلوبه في العمل والمفاوض الإيراني ومراوغته التي لا نظير لها. بعد أسبوعين تلقيت، وأنا في باريس، نبأ وفاته بالسكتة القلبية فحزنت، لكن ما أحزنني أنه دُفن في «العوجة» مسقط رأسه دون جنازة رسمية مرموقة، فحزنت أكثر لأنه كان معروفاً بدماثة الخلق والابتعاد عن الأذى، وهي نقيض طباع وأخلاق كل من تسلم مديرية جهاز المخابرات في العراق وفي غير العراق.

* كاتب لبناني