الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يبدو أكثر شيخوخة في عامه الستين مما يفترض أن يبدو نصا مهمشا ومفاهيم مهملة ومبادئ لا تستحضر إلا لإحياء الذكرى.
المنظمات الحقوقية حول العالم تحيي العاشر من ديسمبر من كل عام، على وقع الانتهاكات المتمادية هنا وهناك، ومنظمة العفو الدولية أطلقت هذه السنة حملة «فلنوقد شمعة»، داعية للوقوف بحزم من أجل حقوقنا وحقوق الآخرين على السواء، انطلاقا من عالمية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة، فيما يبدو أننا نحتاج في منطقتنا إلى إشعال حرائق، للحصول على شعاع ضوء في هذه الظلمة.بالتزامن مع هذه المناسبة، أطلق مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان تقريره السنوي الأول عن حالة حقوق الإنسان في العالم العربي خلال هذا العام الذي يوشك على الرحيل، وقد شمل في البحث اثنتي عشرة دولة عربية من بينها خمس تعيش تحت الاحتلال أو تشهد نزاعات مسلحة داخلية. يسجل التقرير كوارث حقوقية تتجلى في تدهور عام لم تسلم منه حتى الدول التي كان يرجى منها أمل في تحقيق تقدم ما على هذا الصعيد... لا يستثنى من ذلك دول مستقلة أو تحت الاحتلال، إسلامية أو علمانية، والحكومات العربية لم توفر حتى المنابر الدولية من أجل تعميم القمع بشتى صوره، حيث يصف التقرير أداء تلك الحكومات السلبي ضمن المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بحقوق الإنسان. ولعل التقرير جانب الصواب في نقطة واحدة، حيث تحدث عن تغير خارطة ضحايا القمع العربي، وأن الإسلاميين لم يعودوا في مركز الاستهداف فحلت محلهم القوى العلمانية والديمقراطية، والحقيقة، أن القمع ضد الإسلام السياسي على اختلاف توجهاته لم يتراجع، وأن الأغلبية العظمى من المعتقلين لا تزال من نصيب أصحاب تلك التيارات، بغير تفريق بين من يتبنى العنف منها ومن ينبذه، فالقمع أضحى لا يستثني صاحب صوت ينتقد أو يرفض، بغض النظر عن علمانيته أو إسلاميته، ولا ينفي ذلك على أي حال، التحالف الوثيق بين الاستبداد ومؤسسات ورموز دينية متنوعة، بهدف تأمين جرعات متبادلة من القمع والتخدير والظلامية. كما اتسعت الشريحة التي يطولها القمع، لتتجاوز الصحافيين والحزبيين والحقوقيين، إلى شريحة واسعة من الأفراد غير المنظمين، ممن حاولوا خرق جدار الصمت بالكلمات، مستفيدين مما أمنته لهم وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت، من منابر لم تكن متوافرة أو دارجة الاستخدام في الماضي القريب، حتى أنه يمكن القول، إن وتيرة القمع تزداد طردا بازدياد أعداد المدونين والمداخلين، مما أصبح التحكم به وضبطه شبه مستحيل. ولأول مرة ربما، يجري التطرق في تقرير حقوقي عربي إلى دور «المقاومات» في انتهاك حقوق الإنسان جنبا إلى جنب مع ممارسات قوى الاحتلال والأنظمة الحاكمة. ففي النهاية، تهدر حقوق الإنسان على مذبح الوطنية والقومية والاستقلال، ومن جديد تهدر مبادئ سامية وترتكب باسمها الفظاعات، وإن كانت ممارسات الأنظمة مدانة على صعيد واسع شعبيا، فمن المؤسف أن ما ترتكبه «المقاومات» غالبا ما حظي بمباركة «الجماهير»، وهو دليل آخر على التسفيه الذي لحق بمفاهيم حقوق الإنسان وإمكانية التضحية بها إذا ما تعارضت مع عقائد البعض ورؤاهم. حيث إن النزاع المسلح بين حركتي «فتح» و«حماس»، ترك وراءه من القتلى الفلسطينيين والمنكل بهم اعتقالا وتعذيبا، أكثر ممن قتلوا على يد قوات الاحتلال خلال العام الماضي، وفي لبنان أيار «مايو» الأسود، توجهت بندقية «المقاومة» إلى اللبنانيين، حاملة معها مخاطر أحقاد لا يمكن التنبؤ بكيفية استيقاظها. بينما لاتزال مظاهر التمييز العرقي والديني والمذهبي تفعل فعلها في بعض البلدان، ويذكر التقرير مظاهر التمييز ضد الشيعة في دول خليجية، وضد الأكراد، الأقلية القومية الأكبر في سورية، حيث تعرض المئات منهم للاعتقال والمساءلة خلال عام 2008 فقط. أما في مصر، فإن التوترات الطائفية ما بين المسلمين والأقباط في هذا العام، كانت مما ينبئ بالأسوأ، وإن كانت الممارسات الحكومية تلعب دورا أساسيا في تغذية التعصب وممارسة التمييز، فإن ثقافة شبه سائدة لا تتبنى الاعتراف بالآخر وتنشد الحقوق لها دون الآخرين، هي مما يساهم إلى حد بعيد في تراجع أوضاع حقوق الإنسان في منطقتنا. من جديد نوقد شمعة هذا العام، ليس بكثير من التفاؤل، وإنما بكثير من الإصرار. * كاتبة سورية
مقالات
فلنوقد شمعة
12-12-2008