الصحافة الإلكترونية في أيامنا هذه، أقصر الطرق إلى الإحباط. عبرها تجري لملمة أجزاء الصورة كلعبة «بازل». سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، وظلال أخرى. الصورة الكاملة ترتسم بالأسود والرمادي. والأبيض إذا وجد، فليس إلا الفراغ.

Ad

الصحافة الإلكترونية «المستقلة» كما تعرف عن نفسها، تنضح بالمثير من الأخبار. عناوينها الأساسية تنحصر في ثلاث نقاط: الفساد، تردي الأوضاع المعيشية، وبدرجة أقل البيئة. يتفرع عن العناوين السابقة مجالات مرتبطة لا عد لها ولا حصر. وهي في ذلك تنافس بشدة، الإعلام الرسمي الضجِر، الذي يصيب متابعيه بمثل ذلك؛ والذي قد لا يخلو بدوره من تحقيقات «شيقة» في العناوين المذكورة أعلاه، بين حين وآخر.

قضايا الفساد هي من الأخبار المتواترة يومياً. تبدأ من موظف مغمور أو دائرة حكومية صغيرة، ولا تنتهي إلا قبل السماء بقليل. بعضها «لبساطته» يحتل خبراً صغيراً يُنسى في اليوم التالي. بعضها «لوقاحته» يصبح مثل مسلسلات الدراما، ينضح حلقة بعد أخرى بالتفاصيل والأحداث الشيقة.

قضية سرقة أدوية مرض السرطان من احد المشافي العامة، واستبدالها بأدوية مزيفة، شغلت «الرأي العام» السوري أخيراً. إلى هنا وصلت الأمور؟! تساءل الإعلام المحلي، إلى متى التلاعب بحياة الناس؟ هم محقون في استنكارهم واستهجانهم، وليس في دهشتهم على أي حال! تبعث على الحزن تلك الأخبار.

في التقارير والتحقيقات الاقتصادية، لا شيء غير الارتفاع الجنوني للأسعار. المواطن السوري يصاب بالاكتئاب ويغير عاداته الاجتماعية نتيجة الوضع الاقتصادي. أحزمة الفقر تكاد تتحول هنداماً كاملاً. الحكومة ماضية في طريق «اللبرلة» والخصخصة. الحكومة تتخلى عن نهجها «الاشتراكي». شرائح معينة مهددة في أمنها الغذائي. القمح في أزمة نتيجة للفساد والظروف المناخية. وأخبار أخرى كثيرة جداً، تتنوع وتتعدد لتشمل مناحي حياة الناس جميعها. كيف لا، والإعلام صوت المواطن المقهور. ومع ذلك، تبعث على التفكير جدياً بالهجرة، تلك الأخبار.

في مجال البيئة، نسب تلوث الهواء وصلت حدوداً غير مسبوقة. الأنهار والينابيع والآبار لم تسلم من التلوث. الأراضي المزروعة تروى بمياه الصرف الصحي. أزمة مياه تنذر بكارثة. المساحات الخضراء أصبحت أقل من ثقب إبرة.

وحين نتحدث عن الآثار، فهي مهملة، مهددة بالمشاريع السياحية والاستثمارية. من عمريت إلى تدمر إلى دمشق القديمة إلى ادلب. إذا كان الحاضر يتفسخ على هذه الشاكلة، ما الذي قد يدفع إلى الحفاظ على أطلال الماضي؟! تبعث على فقدان الإحساس بالزمن، تلك الأخبار.

هذا الإعلام «المستقل» الذي يتبنى المواقف السياسية الرسمية بلا جدل، يلعب دوراً مهما في المجالات الأخرى المذكورة أعلاه. يفتح نوافذ خبرية مادامت بقيت مغلقة.

وفي المقابل، هناك إعلام المعارضة الإلكتروني. قضايا الفساد والأوضاع المعيشية المتدهورة والبيئة ليست من أولوياته، لكن لديه عناوينه التي لا تقل إثارة هي الأخرى. اعتقالات جديدة، وحملات للإفراج عن معتقلين، وأوضاع المعتقلين البائسة بعد الإفراج عنهم، وأوضاع السجون والسجناء، والتعذيب، والمفقودون، والمحاكمات الجائرة، وقمع الحريات العامة، وحجب المواقع... تبعث على اليأس تلك الأخبار.

كشف الحقيقة أمام أنظار المواطن حقه في الوصول إلى المعلومة ذات أوثق الصلة بتفاصيل حياته في أوجهها كلها. قرع الأجراس لكوارث اجتماعية واقتصادية وبيئية موشكة. لا شيء غريب عن الإعلام في هذا، لكن ماذا بعد تلقي سيل المعلومات البائسة تلك؟ وماذا بعد الإصابة بالإحباط واليأس والاكتئاب؟ وفي ما عدا ذلك، كيف تكون ردود فعل القراء على ما يقرأون؟ كيف يتفاعلون مع ذلك وفي أي اتجاه؟ ماذا بعد تبادل خبر معين عبر مجموعات المراسلة والثرثرة حوله مع الأصدقاء والعائلة؟ إذا كان الدور المرسوم للقارئ أصلا، هو التلقي ولا شيء أكثر من ذلك. إذا كان المجتمع المدني قاحلاً، والقضاء فاسداً، والهواء ملوثاً والمواطن جائعاً، كما يقول الإعلام المحلي شبه الرسمي، فلمن تقرع الأجراس؟!

التحركات الشعبية جميعها الصغيرة والمحدودة في إطار تظلم معين، نجمت عن مساس مباشر بالمصالح الأكثر أهمية لأصحابها، كالسكن وقضايا الاستملاك الجائرة على سبيل المثال. الإعلام الإلكتروني بشكل خاص، واكب معظم تلك الأحداث وانتصر لأهلها أصحاب التظلم أغلب الأحيان. أغلب الأحيان أيضاً، النتيجة كانت في غير مصلحة المتظلمين. لا سلطة للإعلام الذي يبدو إلى حد بعيد، شبيها بالمجتمع الذي يعكس أحواله البائسة: ساخطاً، متذمراً وينضح بالشكوى.

الدولاب يدور ولا أحد يبدو قادراً، أو يتجرأ، وفقاً للقضية المثارة، على الحد من سرعته. يأخذ في طريقه البشر والحجر والهواء والكثير من الأمل. جزء من الإعلام يسجل جزءاً من حركته، يقيس السرعة ويحصي الخسائر، يعكس واقعاً مثل صفحة الوفيات، يصيب بالغم! هذا على أي حال، على الرغم من القيود جميعها التي ترسم حدود ما هو مسموح الخوض فيه والكتابة عنه والتصريح به.

* كاتبة سورية