إن قارئا سمع أني مريض فكتب يقول: «شفاك الله وعافاك وأعادك سالما إلى قرائك... وإلا فإننا نسأله أن يبدلنا منك ويعوّضنا عنك»! ولأن الكلام لا يكلف شيئا فإنك تميل إلى الاعتقاد بأن ذلك الأذى هو في الغالب نتيجة لخيانة التعبير ليس إلا، ولكن كما هو واضح أن الصدقة هنا خرجت من غرفة الدعاء بالخير ودخلت غرفة المفاوضات!

Ad

الكلمة الطيبة، عند الله، خير من صدقة يتبعها أذى، بل إن الكلمة الطيبة هي بحد ذاتها صدقة، لكنك تصطدم، أحيانا بكلمات طيبة يلتصق الأذى الفوري بها كالذيل كانساً من خلفها آثار خطواتها المؤنسة، بشكل يجعلك تتمنى الأذى الآجل كله بديلا عن هذا البديل الذي سد مسد الصدقة المؤذية.

ولأن الكلام لا يكلف شيئا فإنك تميل إلى الاعتقاد بأن ذلك الأذى هو في الغالب نتيجة لخيانة التعبير ليس إلا.

من مثل ذلك أن قارئا سمع أني مريض فكتب يقول: (شفاك الله وعافاك وأعادك سالما إلى قرائك... وإلا فإننا نسأله أن يبدلنا منك ويعوّضنا عنك)!

وكما هو واضح فإن الصدقة هنا خرجت من غرفة الدعاء بالخير ودخلت غرفة المفاوضات!

إنها مفاوضة صريحة بين القارئ ورب العالمين، فإذا شفاني فبها، وإلا فإنه يطلب تعويضا عني.

ولا يخفى أن أداة الشرط هنا تعني أنه احتسبني عند الله وأغلق تربتي بالفاتحة (آمين)!

ولقد ذكرني ذلك بما رواه الباحث التراثي الكويتي الدكتور عادل العبدالمغني عن صديق له بشأن طرق التداوي والعلاج في الكويت القديمة.

يقول ذلك الصديق أنه أصيب، في ذلك الزمن، بصداع حاد تواصل لعدة أيام، من دون أن تنفع معه كل المسكنات المعروفة، فنصحه المجربون بزيارة شيخ يقال له (العيدروس) ليقرأ على رأسه ويكتب له تعويذة.

ولشدة وجعه توجه فورا إلى (العيدروس) حاملا معه طاسة حلوى كهدية.

سأله الشيخ عن اسمه واسم أمه ليكتب له تعويذة تشفيه من الصداع إلى الأبد، وتجلب له الحظ أيضا... فأجابه بأن اسمه (عبدالله) واسم أمه (قماشة).

بعد التعازيم والتمتمات والتهويمات، اختلى الشيخ ساعة، ثم عاد وفي يده تعويذة طلب من عبدالله أن يعلقها في رقبته.

يقول عبدالله إن الصداع زال في الحال، ولم يعاوده قط فدفعه الفضول إلى استجلاء سر هذه التميمة العجيبة التي تفوقت على جميع المسكنات، ففتحها وإذا به يقرأ التالي: (جاني عبدالله بن قماشة، وشايل بايده طاسة، ويقول يعوره راسه... إذا طاب ودي.. وإذا ما طاب عند جدي)!

ولكي أكون منصفا ينبغي عليّ الاعتراف بأن قارئي كان ألطف نفسا من (العيدروس)، فهذا الأخير تمنى الشفاء لعبدالله، لكنه لم يشترط تعويضا في حالة عدم شفائه، بل طلب من الله أن يلحقه بجده... أي أنه يقبض روحه!

ومن طريف ما أتذكره في هذا الصدد حكاية صديق عراقي قال إنه، في وقت من الأوقات، كان مهتما بصحته البدنية والنفسية إلى درجة الهوس، إذ كان يمارس الجري والسباحة ويؤدي التمارين السويدية صباح كل يوم، وينظم وجبات طعامه وفق القواعد الصحية التي يجدها في مجلة (طبيبك) التي كان يصدرها في بيروت الدكتور صبري القباني، وفي أشباهها من المجلات، وأنه في رحلة بحثه عن السلام الروحي اكتشف رياضة (اليوغا) فلم ينقطع عن ممارستها، وفوق هذا فإنه قرأ كتاب دايل كارنيغي (دع القلق وابدأ الحياة) أكثر من مرة، وحرص على تطبيق ما قرأه على كل شأن من شؤونه.

يقول صديقي: باختصار... كنت بصحة وعافية وفي غاية البهجة والإقبال على الحياة، عندما التقيت مصادفة بصديق لم أره منذ مدة فإذا به يحييني بصوت صاعق يفزّز الموتى: (هلا بالبطل... شلونك وردة؟).

لكنه بعد أن حضنني وقبّل وجنتي، بدا كما لو أنه ندم على تقليدي وسام البطولة ورتبة الوردة، إذ إنه صار يبعد عينيه عني ويقربهما مني كمن يدقق في لوحة انطباعية، ولو استطاع لقلبّني وجها على قفا مثل أي بضاعة، ثم لم يلبث أن صرخ بحرقة أم ثكلى: (هاي شبيك مصوفر وزايع عافيتك... جنّك ديج منشول؟).

والترجمة الحرفية لهذا التشخيص هي: (مالك مصفرا ومعدوم العافية كأنك ديك مزكوم؟)!

قال صديقي ضاحكا إنه منذ ذلك اللقاء وقع مريضا ثلاثة أشهر، وحتى بعد شفائه لم يفلح كارنيغي ولا الطبيب القباني ولا تمريناته الرياضية في إعادته إلى سابق لياقته وبهجته!

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء