ما قل ودل: من روائع قصص المحاكم
في مدخل محكمة جنايات «أولد بيلي» العتيدة في لندن لوحة حفر عليها أسماء بعض المحلفين تخليداً لموقفهم الرائع الرافض لتدخل السلطات في قضية سياسية، رغم حجزهم يومين كاملين بغير طعام، ورغم الحكم عليهم بالغرامة لعدم انصياعهم إلى الأوامر التي صدرت لهم بإدانة المتهمين.وقد ذكَّرتني هذه اللوحة بقصة أخرى، لم يحفر اسم صاحبها على لوحة، بطلها قاضي الكوفة شريك بن عبدالله، الذي نظر في شكوى امرأة ضد الأمير موسى بن عيسى ابن عم الخليفة أمير المؤمنين لعدوانه على حائط لها، فأمر القاضي صاحب الشرطة باستدعائه إلى مجلس القضاء، الذي كان يُعقد عادة في مسجد يتم اختياره في وسط المدينة ليكون قريباً من كل المتخاصمين والشهود، أو يعقد في دار القاضي في بعض الأحيان، ولمّا ذهب رئيس الشرطة إلى الأمير يبلغه أمر مثوله أمام القاضي، كلفه الأمير بأن يبلغ القاضي رسالة يقول فيها للقاضي: «يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح، اعديتهــا عليّ»، فذهب رئيس الشرطة إلى القاضي يبلغه الرسالة، فأمـر القـاضي بحبس رئيـس الشرطة، لعدم إحضاره الأمير، ولما بلغ ذلك الأمير، أرسل حاجبه إلى القاضي يطلب منه إطلاق سراح رئيس الشرطة، مُصرّاً على عدم حضور مجلس القضاء، فأمر القاضي بحبس حاجب الأمير، وكلما أرسل الأمير وسيطاً في الأمر قرر القاضي حبسه، قائلاً لهم حتى لا تعودوا إليّ برسـالة ظالم، فما كان من الأمير إلا أن ذهب إلى السجن وفتح بابه وأخرجهم جميعاً منه.
فلما علم القاضي بذلك قال: ما طلبنا هذا الأمر (يعني القضاء) ولكن أكرهنا عليه وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذا تقلدناه، وقرر الذهاب إلى الخليفة مستعفيا، فلما علم الأمير، خشي غضبة ابن عمه الخليفة فسارع إلى القاضي مناشداً إياه ألا يفعل، فأصر القاضي على حضوره مجلس القضاء، بعد أن يعيدهم جميعاً إلى السجن، وامتثل الأمير لأمر القاضي، وحضر مجلس القضاء، جنباً إلى جنب مع المرأة الشاكية، التي قال لها القاضي: هذا خصمك فاشرحي دعواك عليه، وكلما كانت تنتهي من كلامها، كان القاضي يسألها هل هناك شيء آخر تريدين إضافتـه.ولما فرغ القاضي من سماع الدعوى وسماع الأمير والشهود وفصل فيها وفض مجلس القضاء، طلب من الأمير الانتظار، وأخذ بيده وأجلسه في مقعده، وقال للأمير: أيها الأمير أتأمر بشيء؟ فقال الأمير أي شيء آمر بـه... وضحك، فقال له القاضي: أيها الأمير ما فعلته في مجلس القضاء كان حق الشرع، أما ما أقوله لك الآن فحق الأدب، فقـام الأمير قائلاً: «من عظَّم أمر الله أذل الله له عظماء خلقـه».ولهذه القصة دلالات كثيرة، وهي: الأولى: خطورة وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق القاضي، فالقضاة هم ورثة الأنبياء والرسل، يؤرقهم أن يناموا على ضيم ولهذا قال قاضي الكوفة وقد عزم على ترك ولاية القضاة «نحن مكرهون على هذا الأمر»، ولهذا كان علمـاء وفقهاء المسلمين يرفضون ولاية القضاء، وأن أبا حنيفة، حين دعاه أمير المؤمنين إليها ثلاث مرات أبى حتى ضرب في كل مرة ثلاثين سوطاً، لأنه كان يحس بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق القاضي. الثانية: أن هيبة القضاء من هيبة الدولة، وفي هذا السياق يقول القاضي شريك «وضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدناه»... ولهذا نصت المادة 163 من الدستور على أن «شرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك». الثالثـة: استقلال القاضي عن سلطة الحكم، وأنه لا تأثير لهذه السلطة عليه، فالقاضي يأمر بحبس رئيس الشرطة، ويرفض الرسالة التي بعث بها الأمير إليه، وفي هذا السياق تنص المادة (163) من الدستور الكويتي على أنـه «لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائـه ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالـة».الرابعة: أن حق التقاضي، مكفول ولا يجوز أن يُحصَّن قرار أو فعل من حق الطعن عليه أمام القضاء، مهما كانت علو مكانة مصدر القرار، ولهذا تنزل المراسيم التي يصدرها الأمير بعد موافقة مجلس الوزراء منزلة القرارات الإدارية وتتساوى معها في حق الطعن عليها بالإلغاء والتعويض عنها، فالأمير يستخدم سلطاته- طبقاً للمادة 55 من الدستور- بواسطة وزرائـه. وفي الشؤون الخاصة لصاحب السمو الأمير، فقد عهد المشرع إلى وكيل أو أكثر يعيِّنهم الأمير لإعلانهم بالأوراق القضائية ولقيامهم بإجراءات التقاضي عن سموه، «المادة 5 من القانون رقم 4 لسنة 1964 في شأن أحكام توارث الإمارة».وحسناً فعل المشرع، فنظام الوكالة بالخصومة أمام جهات القضاء، قد أصبح أصلاً ثابتاً من أصول التقاضي، يتساوى فيه الكافـة. الخامسة: المساواة أمام القضاء، فقد سوى القاضي بين المرأة الفقيرة وأمير الكوفة، ابن عم الخليفة أمير المؤمنين. وفي رسـالة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري، والتي تعتبر دستور القضاء يقول له فيها القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فلا يطمع شريف في حيفه ولا ييأس ضعيف من عدله. ويُستمد مبدأ المساواة أمام القضاء في الدستور الكويتي من مبدأ المساواة أمام القانون، الذي كفله الدستور الكويتي فيما تنص عليه المادة (29) من أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».السادسة: وتدل واقعه قيام القاضي من مجلسه ليجلس عليه الأمير بعد الفصل في الدعوى على أن الاختلاف في الرأي بين القضاء وبين سلطة الحكم، فيما يصدر من أحكام ضدها، هو أمر طبيعي مستمد من استقلال القضاء الذي كفله الدستور الكويتي للقاضي فيما نصت عليه المادة 163 من أنه لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائـه، إلا أن ذلك لا يُخلّ بمبدأ التعاون بين السلطات الذي جعلته المادة 50 من الدستور قرينا لمبدأ الفصل بين السلطات ولِحمته وسداه، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للتعاون قضية.