كلما أكون في ديوانية أو منتدى عام، ويحتدم النقاش حول الأوضاع السياسية في البلد، ويخرج أحد المفوهين في المكان ليتحدث عما يسمى بالقوى الوطنية ودورها وما ستفعله لو حدث أمر ما أو خلافه، أغالب ضحكتي وأحاول أن أكبتها حتى لا يتصور المتحدث أنني أستهزئ به أو برأيه، وفيما بعد أحاول أن أبحث عن تلك القوى، فلا أجد بين ما يسمى بالقوى الوطنية حاليا سوى سراب بلافتات فارغة المضمون تتلاشى كما السراب.

Ad

فالواقع في البلد يقول إن القوى الوطنية منذ فترة من الزمن «انفل» عقدها، وأضحى مَن تبقى من رموزها فولكلوراً لا تأثير له سوى حديث يحرك شجون الماضي عبر مذكرات ذاك الزمن الجميل. وغدت تركة تنظيماتهم أو تجمعاتهم أدوات وواجهات لقوى الصراع المجتمعي على السّلطة والنفوذ. كما يصعب تصنيف التنظيمات السياسية الإسلامية الأصولية وتوصيفها كقوى وطنية، وذلك على عكس الحركة الوطنية الكويتية الخالصة التي بدأت من الداخل في عشرينيات القرن الماضي. فلكل التجمعات الإسلامية منشأ خارجي وارتباط بمشروع أممي إسلامي سواء كان ذلك مرتبطاً بالسلفية «القاعدية» «الطالبانية»، أو التنظيم الدولي لـ «الإخوان المسلمين»، أو ولاية الفقيه الشيعية، بما لا يجعلها مرتبطة بمشروع ذي أولوية وطنية مئة في المئة.

وفي الوقت نفسه أصبح مستودع القوى الوطنية ورافدها الأساسي، المتمثل في العمل النقابي العمالي أولاً والحركات الطلابية ثانياً، رهينة في يد الآفات الطائفية والقبلية واختراقات السّلطة للأول، ونفس الآفات السابقة بالإضافة إلى أهواء الواهبين والمتبرعين لأنشطتها للثاني، وأصبحت التجمعات والتنظيمات جميعها مسخاً تحركه الأجنحة المتنافسة في السلطة، أو مراكز القوى الاقتصادية والعشائرية بمسميات حديثة تتأرجح بين منابر، وتجمعات سياسية، ومجتمع مدني ببرامج عمل غرضها الديكور وهي جميعها بمنزلة ورقة التوت التي تستر عورة المخفي من المصالح الذاتية والطموحات الضيقة للوصول إلى المواقع والمناصب المتقدمة على حساب البلد.

إن حجم التشوهات الاجتماعية في الكويت الناتجة عن ممارسات الثلاثين عاماً الماضية، من إذكاء لنزعات عرقية وطائفية وطبقية فعلت فعلها، وأصبح الحديث عن قوى وطنية في ظلها وهماً لا وجود له.

وما نشهده بين فترة وأخرى من حركات احتجاجية أو مطالبات شعبية هي ممارسات عشوائية ومزاجية موقته تنطلق من شعور شعبي بالضيق حيال تردي الأوضاع وضياع المشروع الوطني، وهو ما يلبث أن يتلاشى ويختفي الالتزام بأي عمل منظم مستمر، بعد أن يكتشفوا غياب المشروع وضبابية الأهداف، ليعود بعد ذلك أغلب المشاركين في تلك الممارسات إلى حضن الاستيعاب مجدداً من قبل طائفتهم أو عائلتهم أو قبيلتهم لينتجوا للطبقة السياسية الموجودة وفقاً لحساباتهم الخاصة ومصالحهم الضيقة مهما كان انتماؤهم السياسي أو القضية التي يتبنونها، وهو ما أثبتته التجارب الانتخابية الأخيرة.

لذا فإن الحديث عن قوى وطنية فاعلة ومؤثرة ومخلصة لن يتحقق، قبل عملية إصلاحية شاملة طويلة ومكلفة تقبلها مراكز القوى في البلد وتقدم تضحيات من أجلها، ويصاحب ذلك مشروع وطني يجمع أطياف وشرائح المجتمع كافة، ويراعي مصالح الجميع، ودون ذلك، فإن تصنيف بعض مَن يتحرك على الساحة السياسية حالياً ووصفهم بـ«القوى الوطنية»، هو وهم و«ضحك على الذقون» سيطيل معاناة البلد ومحنته.