تبرر إيران موقفها الواهي، بعدما أشعلت مع خصمها الأميركي مجازر غزة الشنيعة، بـ«ثقتها في قدرة المقاومة»، و«ضيق مساحة التحرك الدبلوماسي المتاحة لها»، وهي ذرائع تبدو أوهن كثيراً من تلك التي يسوقها القادة العرب الذين يُلعنون ليلاً ونهاراً، وتقدم خطاباً سياسياً متهافتاً وأكثر بلاهة من ذلك الذي نسمعه من قادتنا في عواصمنا.

Ad

يحلو للكثيرين من نُقاد السياسات الإيرانية القول إن قادة الجمهورية الإسلامية يمضون ساعات الليل الأولى في قراءة كتاب مكيافيللي، ثم يضعون الكتاب تحت وسائدهم، قبل أن يستيقظوا في الصباح، لينفذوا ما فيه من أفكار براغماتية، والواقع أن هذا النقد لا يوفي العبقرية السياسية الإيرانية حقها؛ إذ يبدو أنها فاقت كل ما سطره هذا الحكيم الإيطالي دهاء ونفعية وحكمة.

وفي ذلك يقول المؤرخ البريطاني أنطوني واين إن «اللغة الواضحة المباشرة تُعتبر في إيران نقيصة أو حتى قلة تهذيب؛ إذ يتم التعبير عن الأمور بشكل موارب، لأن الإيرانيين يعتقدون أنه لا يجب قول الحقيقة إلا للحمير».

وقد حاول عبد الحليم خدام النائب السابق للرئيس السوري أن يصف طبيعة التحالف الذي عقدته بلاده مع طهران على مدى أكثر من ربع القرن بقوله: «لم نكن نعرف ماذا يريد الإيرانيون حقيقة إلا بعد أن تقع الأحداث».

الآن وقد وقعت الأحداث فعلاً، وذهبت إسرائيل، بعدوانية سافرة، إلى محرقة جديدة في غزة، تعيد إلى الأذهان ذكرى المجازر التي ارتكبتها في لبنان في حرب يوليو 2006، يبدو الشرق الأوسط، والعالم من خلفه، وقد وقع رهينة معركة فارقة تخوضها الولايات المتحدة الأميركية مع إيران، بغرض تسوية ميدان الصراع المرير بينهما، قبل جلسة تفاوض طويلة مرهقة، يسعى كل طرف منهما إلى الخروج منها بأقصى منفعة وأقل خسارة.

أما الإشكال فينشأ لأن الخصمين اللدودين، اللذين أظهرا نضجاً وأريحية في التعاون المحسوب في العراق وأفغانستان، لا يتقاتلان بجنودهما ولا قوتهما الصلبة المباشرة؛ لكنهما يتحاربان بالوكلاء... السيف الإسرائيلي مقابل اللحم العربي.

احتفلت طهران، ومن خلفها جموع الشيعة العرب، بعاشوراء وذكرى الشهيد أبي عبدالله الحسين، حيث «انتصرت العين على المخرز»، و«الضحية على الجلاد»، و«الدم على السيف»؛ فطالب المرشد الخامنئي المسلمين بـ«الابتهال إلى الله أن ينصر أشقاءهم الفلسطينيين على القوم الظالمين، ويتقبل شهداءهم في جنان النعيم الخالدة»، فيما كان، وأركان حكمه ومستمعوه، بمنأى عن كل مخرز وجلاد وسيف.

انحرف الجمهور العربي عن حقيقة ما حدث، وتخبطت النخبة في برك الدم المتدفق، وضاعت الحقيقة الساطعة: واشنطن، ومن ورائها حلفاؤها الغربيون، وباستخدام أتباعها من العرب، وبسلاح ربيبتها إسرائيل، تمهد ميدان الشرق الأوسط لتسوية تقوم بها إدارة أوباما، تنهي صداع القضية الفلسطينية، عبر وأد فكرة المقاومة، ومعها ما بقي من نزاعات عربية- إسرائيلية. وفي الجانب الآخر تعمل إيران، عبر حلفائها من دول وفصائل وجماعات وجمهور تابع، على التمركز في أكثر المفاصل حيوية وخطورة، لتكون باباً للحل أو مفجراً للصراع حسب مقتضيات الحال، فيُسهل لها ذلك الحصول على أقصى المكاسب في ملفها النووي وإدراك طموحها بالسيطرة على تفاعلات الإقليم والهيمنة على دوله.

تبدو إيران في الأزمة أفضل من يدعم حركات المقاومة العربية، وأحن الأطراف على الدم العربي، وأنبل الفاعلين حيال قضية العرب المركزية، وهو أمر لا يدانيه خطلاً سوى الثقة بواشنطن كراعٍ لما يسمى «عملية السلام»، أو النظر إلى إسرائيل على أنها «تحاول الدفاع عن نفسها في مواجهة الإرهابيين العرب».

تملك إيران أكثر من ورقة تمكنها من تقديم العون الصلب لمن تدعي حرصها على أرواحهم وحقوقهم؛ ومن ذلك أن توقف صادراتها النفطية (نحو ثلاثة ملايين برميل يومياً)، فتغير مسار القضية، أو تطلق صواريخها البالستية (تقول إنها تملك منظومة فائقة القوة يمكنها تحطيم إسرائيل)، أو توقف الملاحة في مضيق هرمز (تدعي أنها قادرة على ذلك في حال تعرضت لأي عدوان)، أو تشعل جبهة الجنوب اللبناني عبر استخدام ورقة «حزب الله»، الذي يدين بالولاء الكامل لها.

لكن طهران عوضاً عن ذلك اكتفت بـ«شغل المسرح» و«النضال الإنشائي» وبعض الألعاب السياسية من عينة مطالبة أحد قادتها العسكريين بـ«استخدام سلاح النفط»، عوضاً عن البدء باستخدامه، أو محاولة بعض المتطوعين التوجه إلى غزة عبر مطار مهر أباد، أو عرض وزير الخارجية منوشهر متقي على نظيره المصري «إقامة مستشفى ميداني لعلاج المصابين الفلسطينيين».

زار أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي المنطقة، وكذلك فعل رئيس «البرلمان» علي لاريجاني، والتقيا الرئيسين السوري واللبناني وقادة فصائل «الجهاد» و«حماس» و«حزب الله» وغيرها، ولم يزد كل ما صرحوا به عما ردده الخامنئي ونجاد ورفسنجاني وغيرهم من قادة الجمهورية الإسلامية في طهران.

لا يخرج الخطاب الرسمي الإيراني حيال الأزمة عن تصريحات هلامية من عينة «الشعب الفلسطيني بإمكانه الدفاع عن نفسه بشكل جيد، وكل ما يحتاجه هو فك الحصار»، و«لا نعتقد أن «حزب الله» سيدخل حرباً مع إسرائيل»، و«نريد إيقاف العدوان»، و«نستهجن صمت القادة العرب»، و«يتعين على الجميع في العالم الدفاع بكل الوسائل عن النساء والأطفال في غزة»، و«نستبعد تدخلاً إيرانياً مباشراً في الحرب على غزة، لأننا واثقون أن المقاومة الفلسطينية تمتلك القدرة على مواجهة العدوان».

تبرر إيران موقفها الواهي، بعدما أشعلت مع خصمها الأميركي مجازر غزة الشنيعة، بـ«ثقتها في قدرة المقاومة»، و«ضيق مساحة التحرك الدبلوماسي المتاحة لها»، وهي ذرائع تبدو أوهن كثيراً من تلك التي يسوقها القادة العرب الذين يُلعنون ليلاً ونهاراً، وتقدم خطاباً سياسياً متهافتاً وأكثر بلاهة من ذلك الذي نسمعه من قادتنا في عواصمنا.

لكن الحكم الفارسية من عينة «الشجاعة بلا حذر حصان أعمى»، و«يد لطيفة قد تسوق فيلاً»، و«إذا أردت أن تدخل مكاناً، فانظر كيف تخرج منه»، و«لا تفتح باباً يصعب عليك إغلاقه»، لم تصل بعد لشعوبنا العربية، ولم تصل أيضاً الحكمة القائلة: «من ركب غرراً فأصاب ظفراً لا تنقطع عنه اللائمة» لقادة فصائلنا المقاومة، كما أن الحكمة القائلة: «الجاهل يتعلم والعاقل يستنتج» لم تصل أبداً إلى أي من حكامنا؛ وهو الأمر الذي حولّنا، بدمائنا ولحمنا وحقوقنا السليبة، قرابين تافهة رخيصة على مائدة التفاوض الإيراني- الأميركي.

* كاتب مصري