لكل مجتمع ثقافته المتشكلة عادة من وحي العادات والتقاليد التي تراكمت عبر الزمان والمكان، لتشكل منظومة سلوكية تسمى بالأعراف التي تعدّ بمنزلة قوانين اجتماعية تنظم السلوك العام للمجتمع، والتي بموجبها يقيّم الفعل وتحدد المواصفات... وأي جنوح أو نشاز مغاير لهذه المنظومة يعتبر خروجا عن المألوف يوجب المحاسبة... ومن هنا فلا عزاء لمن خالف ودفع الثمن.

Ad

الشمولية هي بلا شك أهم عرف في ثقافتنا العربية باعتبارها ابنة التاريخ وقرونه العديدة وخليلة العسكر التي غرزت فينا الفردية وفن الإلغاء بدءا من الأسرة ووصولا الى السلطة التي لم نذق يوما طعم اختيارها الحر خلافا للخصوصية الثقافية العربية القائمة على المطلق التي لا تحتمل غيره، ولو كان خلاصة الأوكسجين شهيقا لرئتيها انسجاما مع الأعراف والتزاما بالقيم وتماشيا مع التاريخ الذي أورثنا في شقه السلطوي أوابد تصعب إزالتها، أو تعديلها داخلياً ولكلفتها العالية خارجيا... ولذلك فإن الشمولية تبقى الخيار المنسجم مع الذات باعتبارها المنهج والمنهاج... ومن هذه الخصوصية تشكل المشهد الموريتاني بإطلالة الجنرال محمد بن عبدالعزيز معلناً الإطاحة بالمولود العربي الأول غير الشرعي-ولد الشيخ عبدالله- الذي تشكل بتلقيح صناعي ومن خارج الرحم بل بغفلة من ثقافتنا.. مما سمح بالنيل من سمعتنا ومن أصالتنا، وانطلاقا من حرصنا على «وحدة الصف» تم الإجهاض وتم تصحيح الانحراف لأنه من غير الجائز تبني هكذا مولود ونحن أصل الأنساب... والتاريخ يشهد لسماحتنا وتجاوزنا... وقد نغفر أي شيء ونغض الطرف عن أشياء بل نقبل بأي شيء إلا شرعية المولود فهي الشرف والصراط.

وما إن أُقصي هذا الوليد الذي لم ير النور بعد والذي جاء وحيدا من الرحم الانتخابي... حتى عمّت الفرحة الأروقة النظمية... وأعلن (بيت العرب الرسمي) باسمهم جميعا أن هذا الفعل صحيح، وغير معتل وقابل للصرف، بل مشمولا بالشفاعة باعتباره ضرورة أخلاقية لتصحيح الانحراف الطارئ والخارج عن الطاعة والمألوف.

الحرية فطرة ومناخ والديمقراطية تجربة ووعي وثقافة قبل أن تكون إجراء انتخابيا... والانتقال النوعي مع تدني الوعي وغياب المعرفة بل عدم توافر تجربة حية ومهمة تكون مرجعية المنطقة كي تعطي الدفع وتمنح الأمل... يحدث الهزات وبعض الارتدادات التي تعرقل التحول وتجعله عرضه للفشل -ولكنها لن تمنع حدوثه- خصوصا من القوى المرتبطة مصلحيا والمتناغم بعضها إيديولوجيا مع الأنظمة الشمولية وغيرها ممن لم تحسم خيارها الديمقراطي بعد، الذي يلزمها بتأمين الحضور عن طريق الحراك والتفاعل مع الشارع خلافا للمحاصصة الشمولية المعتمدة انتخابيا بل وزاريا.

ولهذا لم نلحظ أي ردود فعل مؤثرة في الشارع دفاعا عن الشمولية بل رأينا مباركة نيابية بالأغلبية... وهذا يعكس منطقية الحدث ومنطقية حدوثه. في الحمل الطارئ يتعزز الخوف على حياة الجنين.. وفي الاجهاض تصبح الخشية على الرحم ومقدرته على الانجاب خصوصا عندما يكون العقم وراثيا ومزمنا.. وهذه الخشية مشروعة ولكن عودة الحمل ليست مستعصية -رغم انسداد الأفق العربي- ولنا في القارة السمراء بشقها الأفريقي تجربة مهمة ومشاهدة مؤثرة بالتسليم والاستسلام بين الرؤساء... رغم أنها قارة البؤس والشقاء وهذا يؤكد أن الوعي العام شرط غير لازم -رغم أهميته- للتحول الديمقراطي وهذا أيضا يدحض حجة النظام العربي (بأن خطر الديمقراطية يكمن في غياب الوعي) ناسياً بأن استئثاره هو الخطر الأكبر على مستقبل الأوطان وأن مطرقته قد كسرت كل مشاريع النهوض... إذ يكفي وعي ما في النخب الحاكمة بعملية التبادل على الأقل للبدء بالتحول الديمقراطي وتحمل التبعات. مهما تفاءلنا ففي الذات شيء من حتى ومن الانكسار ومن القناعة بأننا الوحيدين خارج التغطية وإرسالنا لن يتعدى الحدود رغم ثورة الاتصالات... ومهما تشاءمنا ففي الأفق خيوط توحي بالأمل رغم الحظر والإغلاق... فالولادة حدثت -وإن أُجهضت- وبعض الصناديق اُخترقت... ومطب الشرق الأوسط تعثر... وزنازين الحراك اكتظت وخيوط أخرى لم نرها ولكنها تلوح في الأفق... أليست هذه خمائر تشير إلى نضج ما في الواقع... قد يكون في البطء إعاقة ما ولكن في التوقف الشلل.