تبدو علاقة الشاعر الراحل محمود درويش ببيروت خاصة ومفعمة بالحنين والالتباس والتناقص والحب والغيرة والذاكرة، كل شي يمكن أن يدخل على خط تلك العلاقة، ربما لأن نجومية الشاعر الحقيقية انطلقت من تلك المدينة التي عاش في كنفها، وكان له أصدقاء فيها. تبدو علاقة درويش ببيروت مثل علاقته بالحلم المعلق، وبيروت نفسها أشبه بحلم معلق طالما تهافت الشعراء على الكتابة عنها، كما تهافتوا على الكتابة عن محمود درويش نفسه، ربما يكون هذا من أسباب النجومية التي اعتدنا عليها في العالم العربي، الى جانب الجنازات المهيبة والموت الصادم من جمال عبد الناصر الى ام كلثوم وعبد الحليم حافظ الذي انتحر بعضهم من أجله.
قال لي الشاعر شوقي بزيع إن موت درويش يشبه موت عبد الحليم، يجمعهما الألم المشترك، الأول في شعره خصوصًا كتابه «جدارية» والثاني في صوته وأدائه و{نحيبه»، بزيع صديق درويش الذي كان صديقًا للكثيرين في بيروت، وهو الذي وفد الى تلك المدينة عام 1971 وألقى قصائد للمرة الأولى في قاعة الاونيسكو، ومن بيروت أعلن التمرد على الصورة النمطية كما هي مرسومة في ذهن القارئ، وذلك برفض الامتثال إلى إلحاح الجمهور المطالب بقصيدة «سجّل أنا عربي» خوفاً من أن تتحول الى بطاقة هويته الشعرية الدائمة، فألقى بدلاً منها قصيدة شكّلت انعطافاً في تجربته الشعرية «سرحان سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا». عام 1971 في بيروت، كان أول لقاء له مع الجمهور العربي خارج فلسطين، ومنذ ذلك الحين انجذب الى بيروت لا لجمالياتها الطبيعية فحسب بل لحيوية حياتها الثقافية والسياسية. كانت بيروت آنئذٍ عاصمة الأسئلة الثقافية الكبرى وورشة حوار وسجال بين التيارات المختلفة، ومنذ تلك الزيارة قرر الإقامة فيها. سحرته فيها حرية الصحافة والتعددية، وفي العام التالي (1972) جاءها مقيماً، باحثاً، ثم رئيس تحرير مجلة «شؤون فلسطينية»، لكن فرحته ببيروت لم تطل فسرعان ما اندلعت الحرب الأهلية. عندما غادر درويش الأرض المحتلة هاجمته الصحافة اللبنانية، اعتقاداً منها أنه انتهى كشاعر بخروجه، حيث كان يُنظر الى الشعر الآتي من هناك نظرة رومنطيقية، وكان العالم العربي يصفق للشعر من هناك أيًا يكن، جيدًا أم رديئًا. عندما قال «الطريق الى البيت بات أجمل من البيت الذي لم أجده بعد عودتي» وكتب «لماذا تركت الحصان وحيدا»، هاجمته بعض الأقلام واتهمته بالتطبيع. لم يسلم لا من هنا ولا من هناك. يمكننا القول إن خروجه من الأرض المحتلة كان بداية تحوّل شعري، وعودته الى رام الله قبل مغادرته الى عمان كانت بداية تحوّل آخر، في البداية كان التحوّل نحو النجومية في خضم الأحلام الثورية، لاحقًا أصبح الشعر هو القضية، اختار أن يتخلى عن العفوية والتحريض ويشتغل على جوهر نصه الشعري الذي سرعان ما حسده عليه بعضهم، لأنه كان أكثر شبابًا في كبره، عكس معظم الشعراء الذين يصدرون قمة نتاجهم الأدبي في مطلع حياتهم او شبابهم ويصيبهم النضوب لاحقًا. المهم القول إن درويش كان يعتبر بيروت جسر الحنين، أمضى فيها نحو اثنتي عشرة سنة الى حين الخروج، من العام 1970 الى العام 1982. يقول في إحدى مقابلاته :{حنيني الى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. عندي مرض جميل اسمه الحنين الدائم الى بيروت. لا أعرف ما هي أسبابه. أعرف أن اللبنانيين لا يحبون مديح مدينتهم في هذا الشكل. لكن لبيروت في قلبي مكانة خاصة جداً. لسوء حظي أنني بعد سنوات قليلة من سكني في بيروت، وهي كانت ورشة أفكار ومختبراً لتيارات أدبية وفكرية وسياسية، متصارعة ومتعايشة في وقت واحد، لسوء حظي أن الحرب اندلعت. أعتقد أن عملي الشعري تعثّر حينذاك».... يضيف:» أعتقد أن أجمل ما كتبت عن بيروت ديوان «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق». لكن بعد اندلاع الحرب، الدم والقصف والموت والكراهية والقتل... كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. بعض أصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم. أول من فقدت هناك غسان كنفاني. أعتقد أن الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت. انتقل الناس الى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة». والآن بيروت تحنّ الى محمود درويش...
توابل - ثقافات
بيروت محمود درويش
17-08-2008