شكوك وديناميت في زيارة كيري إلى لبنان

نشر في 25-02-2009
آخر تحديث 25-02-2009 | 00:00
 علـي بلوط دخلت إدارة أوباما «البازار» الانتخابي اللبناني من بابه الواسع لدعم قوى «الرابع عشر من آذار». فبعد تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، التي لم تختلف في الجوهر عن تصريحات كوندوليزا رايس، جاء جون كيري رئيس لجنة الشؤون الخارجية خصوصاً إلى لبنان لساعات عدة ليرسل عبر الحدود رسالة إلى دمشق مفادها أن تمتنع العاصمة السورية عن التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، خصوصا الشأن الانتخابي.

زيارة جون كيري لم تكن مقررة ولا معروفة. وتصريحاته، بعد لقاء عدد قليل من المسؤولين اللبنانيين من ضمنهم النائب سعد الحريري، تعطي الانطباع بأن السياسة الخارجية الأميركية، بالنسبة إلى لبنان، مازالت طبق الأصل لسياسة سلفه جورج بوش. غير أن جملة يتيمة وردت على لسانه لفتت الأنظار. فقد قال إنه في طريقه إلى دمشق لفتح حوار صريح ومفتوح مع الرئيس السوري وإدارته، لكن ذلك لن يكون مجرد كلام بكلام، بل ستتبعه «أمور أخرى» لتفعيل هذا الكلام. ولم ينس أن يذكـِّر دمشق من بيروت بأن الملفات التي ترضي واشنطن والتي ستكون مدار النقاش الدبلوماسي هي: سلاح «حزب الله»، والعراق والدور السلبي الذي لاتزال سورية تلعبه، بالإضافة إلى المشكلة الفلسطينية، ومساهمة سورية في طرق وأسلوب حلها، خصوصاً التأثير على «حماس» بواسطة الضغط على قيادتها الموجودة في العاصمة السورية. وأخيراً المشكلة النووية الإيرانية.

بمعنى آخر، فإن كيري لم يأت ليحاور بشار الأسد، بل ليعطيه الشروط الصعبة، مع معرفته المسبقة بأن الرئيس السوري ليس مستعداً، في الوقت الحاضر على الأقل، لتلبية أي شرط من هذه الشروط. وهذا يدلّ على أن غاية ممثل الكونغرس الأميركي أن يخلق جواً يوحي بأن سورية لا تعني ما تقول عندما رحبت بالحوار مع واشنطن، وما يمكن أن يتبع ذلك من تجديد الحملة الأميركية على النظام السوري التي بدأت طلائعها تظهر من خلال فتح ملف نووي سوري مزعوم. هذا مع العلم أن بشار الأسد رحّب أكثر من مرة بحوار مع الإدارة الأميركية، وكيري لا يمثل هذه الإدارة، بل هو مجرد عضو صاحب نفوذ قوي في الكونغرس. والإدارة شيء والكونغرس شيء آخر.

إذن، لم يتغير شيء في استراتيجية إدارة أوباما عن سابقتها سوى الأسلوب في طرح المواضيع. ويبدو جلياً أن التغيير في الأسلوب ينحصر فقط في ارتداء القفاز الدبلوماسي الأبيض في الوقت الحاضر، مع الإشارة إلى أن واشنطن على استعداد لخلع هذا القفاز عندما تفشل اللغة الدبلوماسية في تحقيق أهدافها.

ما يهمنا هو الوضع اللبناني الذي يبدو أنه زُرِع من جديد بالشكوك وبالديناميت من أقصى جنوبه إلى آخر نقطة حدودية شمالية. وقد زادت زيارة كيلي المختصرة للبنان من كمية هذه الشكوك الممزوجة باحتراف أميركي مشهود له بكمية من الديناميت السياسي المتفجر لعل أبرز مادة تحتويه هو إعادة الثقة بالنفس إلى فريق الموالاة بغية دفعهم إلى آتون مواجهة مع الفريق المعارض، مما يعني أن إدارة اوباما ورثت وتبنت من جديد أسلوب تحضير ساحتها اللبنانية لاتخاذها قاعدة انطلاق في حال فشل هجومها الدبلوماسي لحل أزمة الشرق الأوسط. كذلك يعني أن المطلوب من سورية أميركياً أن تلبي الدعوة لحضور حفلة تغيير مواقفها التي ستقام في البيت الأبيض في وقت لم يحدد بعد، وفي زمن مرتبط بنجاح خطتها لاستعادة سورية، أو على الأقل تحييدها وتحديد تأثيرها السلبي على الاستراتيجية الأميركية الموروثة من عهد بوش التي- كما قلنا- بدأت تبتسم، لكن وراء هذا الابتسام تخفي وجها متشنجاً هو بالفعل نسخة طبق الأصل عن وجه بوش ووزيرة خارجيته رايس.

أما هل ينجح التكتيك الاميركي في تحقيق أهدافه المعلنة والمحددة تجاه سورية؟ فهذا موضوع آخر يمكن معالجة أبعاده وخفاياه في وقت آخر؛ ذلك لأن العودة إلى الجو اللبناني الحالي هي أفضلية نظراً لما يخفيه من شكوك وديناميت من شأنهما أن تعيدا لبنان إلى ما كان عليه في ماضيه الأسود، أو على الأقل تحدث اضطرابات أمنية غير عادية وغير متوقعة والبلد على أبواب انتخابات غير عادية.

التحالفات الانتخابية وتأليف لوائح المرشحين باتت شبه جاهزة. ولأول مرة في تاريخ الانتخابات اللبنانية يستطيع المرء أن يقرأ خطوطها الكبرى وربما الصغرى أيضاً. فالبلد ينقسم إلى جهتين (8 و 14 آذار) ولا ثالث لهما. يتبع ذلك انقسام حاد في الطوائف الموالية لهذا الفريق أو ذاك، ما عدا الطائفة الشيعية التي تخوض معركتها الانتخابية كتلة متراصة، إذا صرفنا النظر عن بعض الهنات الهيّنات التي لن تؤثر على تماسكها. وإذا ألقينا نظرة في العمق لوجدنا أن الطائفة الشيعية هي الوحيدة التي استفادت إلى حدّ كبير من نتائج الحرب الأهلية. فبينما تشرذمت بقية الطوائف إلى كتل وأحزاب متفرقة، تمكن الشيعة من توحيد موقفهم، وبالتالي الخلاص إلى غير رجعية من رموز العائلات التي شاركت في حكم لبنان منذ عهد العثمانيين والفرنسيين والعهد «الاستقلالي» الذي يعيش البلد في ظله إلى اليوم. بينما رموز بقية الطوائف مازالت موجودة على الساحة بخلافاتها القبلية وتطاحنها على السلطة وعلى المال مما يدفع إلى القول إن الشيعة باتوا رقماً صعباً من المستحيل تجاهله لا اليوم ولا في القريب المنظور مما يجعل الشيعة «بيضة قبان» في الحكم وفي الشارع على حد سواء مع صرف النظر عن نتيجة الانتخابات.

غير أن الهاجس الأكبر للجميع هو الحالة الأمنية. فبينما «يبشِّر» أصحاب الحظوظ القليلة في نيل مقعد أو مقاعد في مجلس النواب القادم بأن «حالة أمنية كبيرة» ستفرض نفسها وتؤدي إلى تأجيل الانتخابات، وهو مطلب ينادي به البعض في فريق 14 آذار (الموالاة)، يرى الفريق الآخر أنه ليس هناك مكان لوقوع هذه الحالة الأمنية المانعة لإجراء الانتخابات نظراً لأسباب عديدة أهمها أن الجيش تولى مسؤولية الأمن والجيش ملتف حول قيادته ولا مجال لاختراقه. ثانياً أن وقوع أحداث أمنية مانعة للانتخابات شبيهة بالحرب الأهلية السابقة تدخل في إطار المستحيل. فمثل هذه الحرب بحاجة إلى فريقين مسلحين حتى الأسنان. والواقع اللبناني أثبت وجود فريق واحد (حزب الله وحلفاؤه) بينما الفريق الآخر لا يمتلك القدرة القتالية، ولا الرغبة في القتال. ثالثاً، أن نشوب حرب أهلية بحاجة إلى قرار إقليمي وأيضاً قرار دولي وهما غير متوافرين في الوقت الحاضر. غير أن ذلك لن يمنع وقوع أحداث أمنية صغيرة هنا وهناك على امتداد لبنان باستطاعة الجيش مع قوى الأمن الداخلي محاصرتها وإطفاء حرائقها بحيث تزعج الحالة الأمنية ولكن لا تمنع إجراء الانتخابات.

هناك افتراض واحد بعيد الوقوع يجعل إجراء الانتخابات أمراً مستحيلاً وهو ان تقوم اسرائيل، قبيل موعد الانتخابات، بهجوم على الجنوب اللبناني وتحتل جزءاً من أرضه أو كله، حيث لا يتمكن الجنوبيون من ممارسة حق الاقتراع. عندها يصبح تأجيل الانتخابات أمراً واقعاً لا مفرّ منه. إن هذا الافتراض موجود في الأذهان- كل الأذهان- رغم استبعاد حدوثه، لأن أي اعتداء إسرائيلي احتلالي على الجنوب سيقابل بمثله تماماً كما حدث في عدوان (2006). ومن هنا يمكن تفسير تهديدات السيد حسن نصرالله المتكررة لإسرائيل، خصوصاً تصريحه الأخير بإمكانية امتلاك «حزب الله» صواريخ أرض جو مع شبكة دفاعية جوية. وبالرغم من عدم تأكيد أو نفي السيد حسن لامتلاكه هذا النوع الجديد من السلاح، فإن الجميع (موالاة ومعارضة) متفق على أن هذا التصريح أو التلميح هو نوع من التهديد الاستباقي لردع إسرائيل عن القيام بمغامرة جديدة تؤدي إلى تأجيل الانتخابات، وإلى حرب غير محسوبة، مع العلم أن السيد حسن أثبت في حالات كثيرة سابقة أنه يعني ما يقول.

* * *

بعيداً عن الدخول في متاهات الإحصاءات وقراءة الغيب لمعرفة الفريق الفائز في الانتخابات، فإن الشيء الثابت هو أن الفريقين يستعدان لمعركة «كسر عظم». وفي الحب، كما في الحرب، تصبح كل الأسلحة مشروعة.

*كاتب لبناني

back to top