لم أشعر في يوم من الأيام أن مقاضاة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين أمر يسير، كما لم أشعر أنه أمرٌ مستحيل، والحلم البعيد المنال الذي لا نكاد نمسك به حتى يتبدد وينزلق، يبدو ممكناً حتى إن ظهر بصورة المستحيل!!
ولكي لا يهدأ العقل الأكاديمي من الركض وراء الحلم، أو يسترخي أو ييأس، فعليه أن يبقيه مستمراً، حتى إن وصل الى ضفافه أو اقترب منه، سواءً كان ذلك حقيقة أو سراباً أو هكذا يتراءى للناظر والمراقب، فذلك ما يمنح العقل والحلم معاً، معنى جديداً للحياة، فما بالك إذا كانت مسألة العدالة شاغله، الذي لا يستكين من دون التوجه صوبها، وقد تكون مستحيلة وقد تكون ممكنة في آن، لكن ما يعطيها بُعداً إنسانياً، هو السعي لتحقيقها وإنصاف الضحايا وجبر الضرر ووضع حد للتجاوز عليها، عبر إقامة نظام يتسم بالعدل والانسانية على نحو حقيقي وصادق، على المستويين الوطني والدولي.وحسب الكاتب والروائي البرازيلي باولو كويلو صاحب رواية «الخيميائي» و«ساحرة بورتبيلو» هناك شيئان يبقيانك بعيداً عن حلمك، الاول أن تعتقد بأنه مستحيل وفي الوقت نفسه أن تدرك أنه ممكن، وأما الثاني فهو إذا شعرت أنك من دون حلم فستفقد عندها معنى حياتك، وهكذا فإن إبقاء الحلم مشرئباً يعني تحالفك مع المستحيل، وهو تحالف ممكن طالما يظل الحلم واعداً وهدفاً.وإذا كانت مشاعر العالم قد اهتزت عند مشاهدة المجازر وأشلاء الأطفال في الحرب ضد غزة فإن الكثير من البشر الأسوياء، وربما عشرات الملايين تصوروا أن بالامكان محاكمة قادة الصهيونية المتسببين في هذه الارتكابات أمام محكمة جنائية دولية وذلك تشبثاً بمبادئ العدالة والإنصاف، بسبب ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وإبادة ضد الشعب العربي الفلسطيني، ولكن ما إن خبت الحرب حتى خمدت معها الكثير من الأصوات، ولعل البعض برر ذلك بالتعويل على إعادة إعمار غزة وكأنه الهدف، في حين اندفع البعض باتجاه مطالب فتح المعابر وارسال البواخر، وهي وإن كانت ضرورية وبديهية للحياة الانسانية، إلاّ أنها ليست هي الهدف، حتى إن كانت النوايا حسنة، خصوصاً أنه والأمر تحت ضغط الحاجة الماسّة لسكان أبرياء يعانون صنوف المعاناة الإنسانية، يصبح له الأولوية.وبالمقابل فإن السؤال ظل ملتبساً ومبهماً ودون إجابات ظل يشغلني منذ ربع قرن، حاولت الإجابة عنه في كتاب أصدرته بعنوان «سيناريو محكمة القدس الدولية العليا»: هل سيفلت الجناة من العقاب لما فعلوه في اجتياح لبنان وصولاً للعاصمة بيروت، العام 1982؟ ولكن من سيجلبهم إلى قفص الاتهام؟ ومن الجهة التي ستقوم بمحاكمتهم؟ ومتى سيحصل ذلك؟ وهي الأسئلة التي عدت وطرحتها بعد سنوات في كتب وأبحاث ودراسات، وإن كان جوابي في كل مرّة، لا بدّ من إبقاء الحلم مستمراً. لعلي في ذلك أردد مع المسرحي الالماني الكبير بريخت: آه لهذه الأزمنة التي يصبح فيها الحديث عن الشجر جناية، لأنه ينبغي عليك السكوت عن جرائم كثيرة!اليوم يواجهني وجمهرة الفقهاء القانونيين الدوليين نفس السؤال الكبير: كيف؟ ومتى؟ وأين سيمثل الجناة أمام القضاء، لاسيما في ظل العقبات والتحديات الكثيرة؟ وهل يعقل أن ترفع دعاوى ضد قادة إسرائيل؟ ومن سيُقدِمُ على ذلك عربياً؟ ويمكن صياغة السؤال من سيتجرأ على اتخاذ مثل هذا الموقف، خصوصاً في ظل الدعم الأميركي لإسرائيل؟ وهي المعادلة المختلّة بين السياسة والقانون، لاسيما في ظل قانون القوة!وإذا كانت مؤسسات المجتمع المدني هي من أقدم على المبادرة وربما منذ ملاحقة شارون أمام المحاكم البلجيكية، ولكن السؤال يثور مجدداً كيف لمؤسسات المجتمع المدني لو حاولت وسعت ووجدت بعض الثغرات أن تغطي النفقات، فالأمر يحتاج الى عمل طويل ودعم مادي مستمر؟ وكيف السبيل الى إقناع المدعي العام مورينو أوكامبو الذي وجه مذكرة توقيف ضد الرئيس السوداني البشير، بأن هناك جرائم ارتكبت في غزة؟والمريب في الأمر أن الحكومات العربية تبدو حتى الآن وكأنها غير مكترثة بلائحة الاتهام التي يمكن توجيهها بحق قادة إسرائيل أو المرتكبين الإسرائيليين، أو حتى وكأنها غير معنية، في حين أن بعض المنظمات الحقوقية الدولية مثل منظمة العفو الدولية وجهات ومؤسسات أوروبية تدعو لملاحقة المرتكبين الإسرائيليين قضائياً، وكان المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة دودو ديان Doudou Diène قد دعا الى فتح تحقيق خاص حول ارتكابات إسرائيل لجرائم الحرب.وإذا كان الملف الأكبر اليوم هو الدعوى حول الجرائم بحق سكان غزة، حيث تم اتهام نحو 100 شخصية سياسية وعسكرية إسرائيلية وأميركية وبريطانية كلها بصورة مشتركة وفردية، بارتكاب جرائم حرب مباشرة أو بتواطؤ متعمد، فإن الأمر يتطلب جهوداً مضنية للوصول الى تقديم لائحة اتهام بحق المتهمين.ومن أهم هذه الشخصيات المتهمة إيهود أولمرت وإيهود باراك وتسيبي ليفني وغابي اشكينازي وبوفال ديسكن، ونحو 70 ضابطاً عسكرياً بمن فيهم قادة للوحدات البرية والجوية والبحرية والاستخبارات وغيرها. ومن الولايات المتحدة فقد كان اسم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وروبرت غيتس (وزير الدفاع) وكونداليزا رايس (وزيرة الخارجية)، ومن بريطانيا غورون براون رئيس الوزراء، وديفيد ميليباند وزير الخارجية، وجون هيوتن وزير الدفاع، وقد شملت الدعوى بريطانيا لأنها موقعة على نظام محكمة روما الجنائية الدولية، وهي داعمة لإسرائيل سياسياً وعسكرياً، وهناك أجزاء من طائرات الآباتشي تصنع لديها، مثلما هي قاذفات وقنابل F15 وF16 وهذه كلها استخدمت في الحرب على غزة وساهمت في قتل المدنيين وتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات والمعابد والكنائس وغيرها.ما الذي يمكن أن تتضمنه لائحة الدعوى؟ إنها يمكن أن تتضمن شهادات للعديد من الضحايا، لاسيما للجرحى، كما تشمل تفاصيل الدمار وأنواع الأسلحة المحرّمة دولياً التي تم استخدامها مثل الفسفور الأبيض والقنابل الإبرية المخترقة للملاجئ، التي يقول عنها بعض الخبراء إنها تحتوي على اليورانيوم المنضب لزيادة الاختراق، إضافة الى قنابل «الدايم» التي تحتوي على مادة التانغستين التي تسبب شظاياها المجهرية تقطيع الضحايا الى أشلاء.وقد قدمت منظمة التحالف الدولي لمنع الإفلات من العقاب «حقوق» ملفاً مفصلاً لتقطع شوطاً لا بأس به في حيثيات الدعوى، الأمر الذي دفع المحكمة للتدقيق في الملف المعروض أمامها، لاسيما في جوانبه المهنية والقانونية وفي التهم المرفوعة والأدلة والأسانيد المتوافرة.ولكي يقتنع المدعي العام أوكامبو بالأدلة وبوجود جرائم حرب لجأ بعض المحامين الى رفع دعاوى أمام المحاكم الوطنية الأوروبية في حال تمتع أحد الضباط الإسرائيليين المتهمين بجنسية أخرى أوروبية مثلاً، وهو ما قامت به المحامية مي الخنسا التي ترأس «منظمة التحالف» في كل من إسبانيا وبلجيكا.ومع أن هذه الجهود لاتزال في إطار تنظيم لائحة الاتهام، لكنها قد لا تصل الى هدفها بحكم عدم وجود دعم مادي لوجيستي لها، وهو أمر في غاية الصعوبة والتعقيد في أوروبا، إذ لا يكفي العمل التطوعي بالجهد والفكر، بل هناك حاجة ماسة لتغطية نفقات ضرورية ليس بالامكانات المعنوية والمعرفية فحسب، بل بالامكانات المادية، إذ لا يكفي قيام إسرائيل بالانتقام الجماعي والقتل العشوائي حسب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، لتوجيه لائحة اتهام وملاحقة المرتكبين، حتى إن كانت قوة احتلال وعليها احترام قواعد القانون الدولي الانساني، لكن الأمر يتعلق من جهة أخرى بموازين القوى وطريق تحريك الدعوى وتوجيه لائحة الاتهام، وبالتالي السير بالقضية حتى نهايتها لتحقيق العدالة، الأمر الذي يقتضي سلسلة من الاجراءات المعقدة وتوفير المستلزمات والإمكانات الضرورية.وبغض النظر عن قبول ورفض لائحة الاتهام من جانب الجهات القضائية الدولية والوطنية، فإن ما يجب القيام به هو التقدم بأدلة وبراهين وتدعيمها باستمرار الى المحاكم المختصة في الدول التي يقبل قضاؤها الوطني مثل هذه الدعوى لارتكابات جرائم الحرب، وذلك طبقاً للمادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة العام 1949 والتي تقضي على الدول الموقعة ملاحقة مجرمي الحرب أياً كانوا، وسيكون مثل هذا الاتهام بحد ذاته عقبة أمام تحرك أي مسؤول إسرائيلي في دول الاتحاد الأوروبي لوجود معاهدة تبادل المجرمين.* باحث ومفكر عربي كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
لائحة اتهام وحلم العدالة الممكن و المستحيل!
24-04-2009