ظلت الجمهورية العربية، وستظل لعقود أخرى مقبلة، رهينة لتجاذبات واعتوارات هيكلية عديدة؛ لعل أهمها العلاقة بين الرئيس والجنرال: رأس السلطة وسلطة القمع، الشرعية والأمر الواقع، الحق النظري والقوة النافذة، الصورة والأصل، المُعلن والمسكوت عنه، المخ والعضلات.

Ad

وراء كل رئيس عربي جنرال؛ يمكّن له ويحرسه ويرعاه، ويبعد عنه سخافات العامة من الجماعة الوطنية، ويجهز له الأعراس القومية، ويقود الأوركسترا الرسمي، ويزين بنياشينه وأوسمته المزخرفة الحفلات العامة، ويشاركه الاحتفالات بتخريج «الجنرالات» الجدد. يرسل له التهاني في أعياد الفطر والأضحى والإسراء والمعراج والمولد النبوي، ويحتفل بإطلاق طلقات المدافع في يوم ميلاده، ويشن حرباً ظافرة ضد «الإرهاب» و«المعارضين الخونة»، لتوطيد سلطة الرئيس، وتأمين حكمه... وينهزم في كل حرب مع الأعداء.

أهم آفات الجمهورية العربية أنها ظلت، وستظل لعقود أخرى مقبلة، عسكرية بامتياز، مهما تجملت بالانتخابات الهزلية، والبرلمانات الكرتونية، والأحزاب الكوميدية، والإعلام المنفلت، والمجتمع المدني الناشط؛ فالعلماء الثقات يجزمون في حزم: حكم عسكري أوتوقراطي... يتلاعب بعواطف الناس البسطاء، ويستغل رخاوة الدولة وضعف المجتمع، ويسخر أدوات القمع المسلحة، التي يحتكرها بحكم وظيفته، لتحقيق أغراضه «الفاشية» أحياناً، والسلطوية النفعية في الأحيان كلها.

يقف الجنرال، في الجمهورية العربية، في خلفية الصورة؛ فيمكّنه موقعه من رؤية ما لا يراه الرئيس، ومن كشف ما يحدث خلفه وخارج حدود رؤيته، ومن الفرار سريعاً إذا أُطلق الرصاص مستهدفاً «القائد الرمز» أو نظامه وأركان حكمه، ومن التقاط بقايا العمولات و«أتعاب» الفساد و«إكراميات» خصخصة الثروة العامة... ومن تسديد الطعنة النافذة في الظهر في ساعة الحسم.

يفكر الجنرال، في الجمهورية العربية، في العام أكثر مما يفكر في الخاص، وينشغل بالسياسة أكثر مما ينشغل بالعسكرية، ويكرس قدراته وسلطاته لصيانة «أمن النظام»، أكثر مما يكرسها لصيانة أمن الوطن، ويشخص أعداءه في داخل «البلاط»، في ما هم قابعون على الحدود تربصاً وانتهازاً، ويتحول من عسكري محترف، كما هو مفترض، إلى سياسي يستخدم السلاح في الصراعات المدنية؛ فيحسمها ظلماً وعدواناً وافتئاتاً لمصلحته.

ليس ما فعله الجنرال محمد ولد عبدالعزيز قائد الأركان الخاصة للرئاسة، وقائد الحرس الرئاسي الموريتاني، مع رئيس البلاد المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، سوى نسخة مكررة من مسرحية هزلية، تعرض على مسرح عالمنا العربي، من دون انقطاع، على مدى العقود الستة الأخيرة.

فالأمر نفسه حدث، بالسيناريو ذاته، في معظم الجمهوريات العربية: «الأخوة المواطنون، لقد ثار الجيش على الحاكم الطاغية وأطاحه وزمرته من الأتباع الخونة، الذين باعوا مصالح الوطن، وفرطوا في حقوقه، وانهزموا أمام أعدائه، وبددوا ثرواته... نعدكم بالعدل والرفاهية والنصر على الأعداء (الكبار والصغار، القريبين والبعيدين)، وبالمرة سنحرر فلسطين».

ذهب الرئيس وحل الجنرال رئيساً... لكن الحال لم يتبدل، فلا العدل جاء، ولا الرفاهية ظهرت، ولا تحقق انتصار، ولا حُفظت الثروة، وبالطبع لم تحرر فلسطين (فقط حررت «حماس» غزة من قبضة السلطة الفلسطينية).

شكّل الضباط «مجلساً أعلى للدولة»، أو «مجلساً أعلى للثورة»، أو «مجلساً أعلى للإنقاذ»، أو أي «مجلس أعلى» يمكنهم من الهيمنة على الحكم، وتأميم السلطة المدنية، ومصادرة التعدد، وتنظيم النهب والفساد، وتمكين طبقة جديدة، غير مستحقة، لم تنعم بالسيطرة على الموارد بعد، وتثوير الإعلام، وإطلاق النيران على «العهد البائد»، وتشغيل ماكينة الوعود: «وطنية... عدالة... رفاهية... حرية... انتصارات... وبالمرة تحرير فلسطين».

إذا لم تخرج الجمهورية العربية من نفق العلاقة بين الرئيس والجنرال سيظل مصيرها محل شك كبير، وسيبقى مستقبل أبنائها مرهوناً بصراع ممجوج على السلطة بين متنافسين يسخرون كل مقدراتها وثرواتها من أجل الفوز في لعبتهم الأثيرة. لن يتعزز اليقين في الجمهورية العربية، ولن يتوهج الأمل في مستقبلها، إلا بعدما ينسحب وجهها العسكري لمصلحة صورتها المدنية.

فليس من الحكمة أبداً أن يتسلم الجنرالات قيادة المحافظات والمقاطعات، ورئاسة مجالس الإدارة في مصانع الأغذية والكيماويات والملابس والنوادي الرياضية، ورئاسة أجهزة البث والإعلام، وقيادة المجالس النيابية والجمعيات الخيرية، ومناصب السفراء والمبعوثين والملحقين الدبلوماسيين، وحقائب الوزارات، وخدمات النقل والمرافق العامة، ويقودون أيضاً الانقلابات، في ما هم لم يبرهنوا يوماً على براعة في الأداء، أو مهارة في الإنجاز في عملهم الرئيس ومهنتهم الأصلية... العسكرية.

حققت جيوش الدول الغربية انتصارات عسكرية عديدة في القرن الماضي في ميادين مختلفة، لكن أحداً لم يرصد هيمنة للجيش على الحكم، أو تحولاً منهجياً لجنرالاته من مواقع العسكرية إلى مقاعد الحكم والسلطة، أو انقلابات تعد بالعشرات في عقود خمسة، أو انتقادات مريرة وشتائم لـ«عهد بائد» أزيح بـ«البيان الرقم واحد»، وحل مكانه عهد أسوأ منه... وأضل سبيلاً.

*كاتب مصري