هناك حكاية نجدية طريفة عن رجل أطرش مر بسيارته على رجل من بلدته يقف على الطريق، وكان أيضاً أطرشَ، فسأله: «إنت رايح الديرة؟»، فقال الرجل الواقف «أنا رايح الديرة، إنت وين رايح؟»، فقال الثاني «لو إنك رايح الديرة خذيتك معي»، فتركه واقفا في مكانه.
وبعد ساعات التقى الرجلان في الديرة وتكرر بينهما الحوار، قال صاحب السيارة «ما دامك رايح الديرة ليه ما ركبت معي»، فقال الآخر «ما دامك رايح الديرة ليه ما خذيتني معك». حوار الطرشان هذا هو الأكثر حضورا في كل مجالات حياتنا هذه الأيام، لكنها للأسف حوارات لا تؤدي في نهاياتها الى «الديرة». المراقب للخطابين الدينيين الرئيسين في العالم العربي بشكل عام وفي الكويت خصوصا، يلاحظ أنهما خطابان لا يؤديان في النهاية الى «الديرة»، خطابان يشوبهما التشكيك والتكفير المعلن والمبطن، خطابان يفرّقان ولا يجمعان، خطابان يقسّمان الشعب والبلاد من دون أن يصل المتابع الى شيء سوى مزيد من الارتباك واهتزاز القناعات. المراقب للخطاب السياسي لن يكون أفضل حالا من زميله السابق، فالحوارات بين الأطراف المتصارعة تبدو متباعدة يختلط فيها الديني بالعلماني والوطني بالقومي والقبلي بالشخصاني. الناشئ السياسي يفتقد الصبر ليفيد من المخضرم الذي أمضى عمره في دهاليز السياسة، والمخضرم الديني يعتقد انه الأكثر ادراكا للسياسة من خريج السياسة. أصوات العقل الاقتصادي تتلاشى أمام مغامري الاقتصاد ومضاربي البورصات المحلية والعالمية. المتابع لثقافة التعليم أو التربية كما نسمّيها في الكويت، لا يحتاج إلى بحث ميداني ليدرك رداءة المخرجات التعليمية وانهيار السلوك الاخلاقي، حين تحولت العلاقة بين الطالب والمعلم من علاقة بين طالب علم ومعلم، الى علاقة بين منتج ومستهلك. أصبحت كل أسرة تعاني ضعف أبنائها التعليمي وانهاكها بمصروفات التعليم الخاص، وما يحدث في التعليم الخاص ليس أحسن حالا من العام. الوضع الثقافي، وهو الذي يهمني أكثر من سواه، لا يختلف أبدا في مضمونه عن حوارات الطرشان، فالقائمون على المشهد الثقافي والأدبي بعيدون عن المثقف وقريبون من أنفسهم وتضخيم ذواتهم على حساب انتاج الآخر، الحوار بينهما اما منقطع أو حوار طرشان. والعلاقة بين الشاعر والمتلقي أصبحت مُبهمة والفجوة أكبر من أن تُرتَق، فهناك مستويات متباينة بين القارئ والشاعر نتيجة اختلاف ثقاقة الاطلاع والمتابعة، فثقافة القراءة أصبحت جهدا لا يستحق التواصل وغير مجدية. هناك أكثر من جريدة يومية ومجلة اسبوعية في الكويت، وللأسف، لا تجد صفحة ثقافية ثابته في أي منهما، والمقارنة بين الملاحق الفكرية في صحف الثمانينيات واليوم، مقارنة مخجلة. لقد اختفت أسماء كبيرة كان لها الأثر الأكبر في تكوين الوعي الثقافي، وكانت الثقافات المجاورة تنظر بعين الكبر والتقدير إلى المنتج الثقافي في الكويت حين لم يكن الحوار هنا حوار طرشان. سألت مرة أحد الطلاب الكويتيين في كندا وكان يتحدث بحماس عن كرة القدم، عما يحدث في الرياضة الكويتية وما أقرأه في الصحف ولا أفهمه بشأن الهيئة والشؤون واتحاد الكرة والأندية والاتحاد الدولي، فصمت الطالب قليلا ثم ضحك وقال: لا أعتقد أن هناك من يفهم ما يجري. حوار الطرشان بحاجة الى قليل من أدب الاصغاء الذي بدأنا نفتقده، وأن نستمع إلى صوت المتخصص ونثق بما يقول، أما أن نترك من هبّ ودبّ يفتي بما يعلم ولا يعلم، فلن تؤدي حواراتنا إلا الى مزيد من الضياع.
توابل
حوار الطرشان
28-09-2008