لا تبكوا من أجل الدوحة
![بروجيكت سنديكيت](https://www.aljarida.com/uploads/authors/176_1682431716.jpg)
إنه لمن الصعب أن نهدئ مثل هذه المخاوف بأن نزعم أن جولة الدوحة قادرة على انتشال عشرات، بل ومئات الملايين من الفقر. إن أفضل ما يسعنا أن نقوله هو إن إصلاح نظام المزارع في الدول الغنية من شأنه أن يشكل نعمة ونقمة في آن بالنسبة إلى فقراء العالم، إذ إن المكاسب الواضحة لن تعود إلا على القليل من السلع الأساسية، مثل القطن والسكر، والتي لا تستهلك بكميات ضخمة في الأسر الفقيرة. أما أكبر الفائزين نتيجة لإصلاح نظام المزارع في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض البلدان الغنية فهم دافعو الضرائب والمستهلكون، الذين ظلوا مدة طويلة يتحملون تكاليف توفير الإعانات وسبل الحماية التي يتلقاها مواطنوهم من المزارعين، ولكن يتعين علينا أن ندرك تمام الإدراك أننا نتحدث هنا عن إصلاح السياسات الداخلية وإعادة توزيع الدخل على المستوى المحلي. وقد يؤدي ذلك إلى نتائج طيبة في ما يتصل بالكفاءة، بل حتى تقليص التفاوت بين الناس، ولكن هل ينبغي أن يكون ذلك هو الشغل الشاغل الأساسي لمنظمة التجارة العالمية؟ماذا عن التعريفات الصناعية؟ لقد طالبت الدول الغنية بتطبيق تخفيضات حادة في التعريفات المفروضة على الاستيراد في الدول النامية مثل الهند والبرازيل في مقابل إلغاء الإعانات الزراعية في الدول الغنية على مراحل، (أما لماذا يتعين على الدول الغنية أن ترتشي من قِبَل الدول الفقيرة حتى تفعل ما هو في مصلحتها، فهو أمر يحيطه الغموض حتى الآن)، ولكن هنا أيضاً سنجد أن الفوائد المحتملة ضئيلة للغاية، إذ إن التعريفات المطبقة في الدول النامية، رغم أنها أعلى من نظيراتها في الدول المتقدمة، فإنها الآن أقل من أي وقت مضى فعلياً.وطبقاً لتقديرات البنك الدولي، فإن الإلغاء التام للقيود التجارية كلها المفروضة على السلع من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى تعزيز دخول البلدان النامية بما لا يزيد على 1%، بل إن التأثير في دخول الدول المتقدمة سوف يكون أقل. وبطبيعة الحال فإن جولة الدوحة لن تنجح إلا في تقليص هذه الحواجز وليس إزالتها بالكامل. لقد ارتكزت جولة الدوحة إلى أسطورة مفادها أن أجندة المفاوضات التي تركز على الزراعة سوف تشكل «جولة تنمية». ولقد منح ذلك الأطراف الرئيسية ما كانت ترغب في الحصول عليه، فقد منح حكومات الدول الغنية، ثم مدير عام منظمة التجارة العالمية مايك موور، الفرصة لاكتساب موقف أخلاقي أفضل من موقف المحتجين المناهضين للعولمة. كما منح الولايات المتحدة المعول الذي تستطيع به تقويض السياسة الزراعية المشتركة في الاتحاد الأوروبي. كما كان ذلك المفهوم مفصلاً لخدمة عدد قليل من الدول النامية ذات الدخول المتوسطة (مثل البرازيل والأرجنتين وتايلند)، التي تُعَد من بين كبار مصدري السلع الزراعية.بيد أن أسطورة جولة «التنمية»، التي روج لها المسؤولون التجاريون وخبراء الاقتصاد الذين تبنوا «النظرية الثنائية» في المفاوضات التجارية- أو اعتبار النظام التجاري غير قادر على البقاء والاستمرار إلا في ظل التقدم المستمر في عملية التحرير التجاري- كانت ذات نتائج عكسية، لأن الولايات المتحدة والدول النامية الرئيسية وجدت صعوبة كبيرة في تحرير قطاعات الزراعة لديها، والذي أدى في النهاية إلى انهيار جولة المفاوضات الأخيرة كان رفض الهند للقواعد الصارمة التي شعرت أنها سوف تعرض صغار مزارعيها للخطر. والأهم من ذلك أن المخاوف التي تؤسس للنظرية الثنائية مضخمة إلى حد كبير، فنحن نعيش في ظل أشد الأنظمة التجارية تحرراً في التاريخ، ليس لأن منظمة التجارة العالمية تفرض ذلك النظام، بل لأن عدداً من البلدان المهمة- الغنية والفقيرة على السواء- وجدت أن تبني قدر أعظم من الانفتاح يصب في مصلحتها. إن المخاطر الحقيقية تكمن في موضع آخر، فمن جانب هنالك خطر تحقق مزاعم أنصار التشاؤمية- والذي يتلخص في تسبب المسؤولين التجاريين والمستثمرين في تحويل سيناريو الهلاك إلى حقيقة واقعة نتيجة لاستسلامهم للهلع. ومن ناحية أخرى هناك الخطر المتمثل في فشل «جولة التنمية» المكتملة في تلبية التوقعات المرتفعة التي أحدثتها، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تآكل شرعية قواعد التجارة العالمية على الأمد البعيد. وفي النهاية فقد يكون المزاج النفسي والتوقعات، وليس النتائج الاقتصادية الحقيقة على الأرض، من أهم العوامل في تحديد النتائج النهائية.لذا، لا ينبغي لنا أن نتباكى على جولة الدوحة، إذ إنها لم تكن «جولة تنمية» على الإطلاق، وليس من المرجح أن يبدو عالم الغد مختلفاً عن عالم الأمس.* داني رودريك ، أستاذ علوم الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»