مرّت الذكرى الـ60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكتب عنها الكثيرون هذا العام، ولا يتعلق الأمر بزيادة الوعي بأهمية احترام حقوق الإنسان حسب، بل أحياناً لانتقاد الظاهرة، وكأنها هي المسؤولة عن مآسي مجتمعاتنا، دون الالتفات إلى حجم التحديات الخارجية التي تهدد بلداننا وشعوبنا وحجم التحديات الداخلية، التي لاتزال تشكل عائقاً أمام التقدم الحقيقي الذي تطمح إليه، لاسيما باحترام حقوق الإنسان.

Ad

وبين الرغبة في التقديس لدى البعض، ويقابلها الرغبة في التدنيس لدى البعض الآخر، لاسيما من الناقمين على مؤسسات وهيئات حقوق الإنسان، يتخذ الحديث عن حقوق الإنسان منحىً سياسياً وآيديولوجياً أحياناً وفي أحيان أخرى يغلّف بإطار ديني، في حين أن هذه الحقوق هي حقوق طبيعية ولصيقة بالإنسان، وهي حقوق أصيلة في الوقت نفسه: مثل الحق في الحياة والعيش بسلام ودون خوف والحق في الحرية والحق في المساواة والحق في المشاركة وعدم التمييز لأي سبب كان، والحق في أن يكون للإنسان جنسية لا يمكن نزعها تعسفاً، وعدم إخضاعه للتعذيب وحقه في محاكمة عادلة، مثل حقه في السلام وفي بيئة نظيفة وحقه في التنمية وحقه في الصحة والتعليم والعمل وحقه في الاستفادة من الثورة العلمية- التقنية، وحقه في التمتع بالثقافة وحقه في التعددية والاعتراف بشخصه الاعتباري والقانوني وحماية كرامته وحقه في اختيار الحاكم واستبداله وغيرها من طائفة الحقوق والحريات، الخاصة والعامة، الفردية والجماعية.

ولعل حقوق الإنسان لا تتوقف عند حد أو تنتهي عند زمن، فهي مستمرة ومتصاعدة ومتواصلة، وما كان حقاً قبل قرن من الزمان، فقد تطور هذا الحق وأضيفت إليه حقوق جديدة، كما تجذّرت هذه الحقوق واكتسبت بُعداً أكثر عمقاً وشمولاً، وبالتأكيد ستكون حقوق ما بعد قرنين من الزمان هي غير حقوق الحاضر أو حقوق الماضي، وهكذا هي السيرورة الإنسانية.

وإذا كانت البلدان الأوروبية قد شهدت احتفالات كبرى بهذه المناسبة وربما مبالغ فيها أحياناً، لاسيما مطالبتها البلدان النامية باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إلاّ أنها بكل أسف كشفت على نحو سافر وصارخ مدى التواطؤ في هذه المسألة النبيلة، والسعي إلى توظيفها لأهداف سياسية ومصالح أنانية ضيقة، وكان لاعتراف الرئيس بوش بأن معلوماته عشية غزو العراق كانت مضللة، فضيحة أخلاقية وقانونية وسياسية خطيرة، وهي ترتب مسؤوليات قانونية عن كل ما حصل في العراق من تدمير وقتل وتبديد للأرواح والموارد.

واليوم تشهد غزة حصاراً شاملاً لمنع وصول الغذاء والدواء والوقود إليها، وهذا الحصار المستمر منذ عدة أشهر هو شكل من أشكال جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ويهدف إلى خنق شعب تعداده مليون ونصف المليون نسمة، كما تستمر جماعات الاستيطان بمهاجمة منازل ومحال الفلسطينيين في الضفة الغربية، مثلما حدث في مدينة الخليل، حيث هاجم نحو 500 مستوطن منازل الفلسطينيين وأحرقوها تحت حماية السلطات الإسرائيلية، الأمر الذي يستحضر ما حصل لفلسطين طيلة ستة عقود من الزمان من الهادر السافر والصارخ لمنظومة حقوق الإنسان الجماعية والفردية، الخاصة والعامة، المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن اغلاق الحدود وإقفال المعابر لا يعني سوى محق تدريجي منظم لسكان قطاع غزة، وذلك عشية وبُعيد الذكرى الـ60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو العام نفسه الذي تأسست فيه إسرائيل 1948، وتعهدت بالالتزام بميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص في سبعة مواضع فيه على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

وكان يوم صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عدد أعضاء الأمم المتحدة 56 دولة حيث وافقت على الإعلان 48 دولة، ولم تعترض عليه أي دولة، في حين تحفظت عليه 8 دول هي 6 من الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق وجنوب إفريقيا العنصرية، والمملكة العربية السعودية آنذاك.

وإذا كان هناك 60 عاماً بين العام 1948 و2008 فإن الكثير من التطورات والتغييرات قد حصلت، ولا شك أن بعضها كان إيجابياً، خصوصاً بعد صدور العهدين الدوليين لحقوق الإنسان من الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك في العام 1966، وهذان العهدان هما اتفاقيتان دوليتان «اشتراعيتان» أي منشئتان لقواعد قانونية جديدة أو مثبتتان لها، وقد دخلا حيّز التنفيذ العام 1976، ومن أهم موادهما مادة متميزة نصت على حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومثل هذا الحق خلا منه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر نقصاً خطيراً في حينها، حيث عارضت الدول الاستعمارية إدراج مثل هذا النص، لكن صدور إعلان تصفية الاستعمار العام 1960 ساعد وساهم في إقرار هذا الحق كقاعدة أساسية مستقلة، خصوصاً أنه يعتبر ركناً أساسياً من أركان القانون الدولي المعاصر. وبهذه المناسبة يجدر بنا نحن العرب أن نتذكر دور العلاّمة اللبناني شارل مالك الذي كان له الفضل الأكبر في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لاسيما جانبه الفلسفي، الذي أعطاه نكهة وتميّزاً ليكون لاحقاً فضاءً لاتفاقيات ومعاهدات وتصريحات دولية زادت على 130 في إطار المنتظم الدولي، وكلّها تقنن و«تشرعن» حقوق الإنسان، حيث كان الإعلان العالمي الشجرة الوارفة التي تفرعت عنها هذه الغصون المثمرة، وبدلاً من الانتقادات والتحفظات الكبيرة والكثيرة التي لاتزال العديد من البلدان العربية تتخذها سياسة رسمية إزاء حقوق الإنسان، رغم بعض التطورات في هذا الميدان، فإنه يحق لنا اليوم أن نستحضر مساهماتنا تاريخياً، لاسيما في حضارتنا العربية الإسلامية بما فيها من نماذج إيجابية.

إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعتبر أهم وثيقة دولية صدرت في القرن العشرين، حيث احتوى على ديباجة و30 مادة تحدثت عن المساواة في الكرامة وحظر التمييز لأي سبب كان، وتناول الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كإطار عام جاء تقنينها في العهدين الدوليين لاحقاً.

وعندما نتحدث عن حقوق الإنسان فإننا نقصد بذلك رزمة الاحتياجات والمتطلبات التي يتطلب توافرها لجميع الأشخاص في كل المجتمعات، وبهذا المعنى فإننا نقصد أن حقوق الإنسان هي واحدة في كل بلدان العالم، ويتمتع بها كل البشر لكونهم بشر ليس إلاّ، وعلى نحو متساوٍ، بغض النظر عن المجتمع أو الدولة أو الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان، أو اللغة التي يتكلمها أو جنسه أو منشئه الاجتماعي أو العرقي أو لونه أو دينه.

وهكذا فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تضمن قيماً ذات طبيعة شمولية، فالحق في الحياة والحق في الحرية وفي الكرامة وعدم التعرض للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة والحق في المساواة وفي التعبير وفي محاكمة عادلة وغيرها، هي حقوق تعني البشر جميعاً مثلما هو الحق في الصحة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي وغيرها، وهذه جميعها حقوق تُعنى بالبشر جميعاً، بصرف النظر عن عرقهم ودينهم ولغتهم ولونهم وجنسهم وانحدارهم الاجتماعي.

إن هذه القيم التي وردت في الإعلان تحوّلت إلى نصوص قانونية ملزمة تضمنها العهدان الدوليان، وهي بإضافتها إلى الإعلان تشكل «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان» ويضيف البعض البروتوكولين الملحقين بها، وإذا كان العالم قد سار بخطوات حثيثة لتأمين مستلزمات تطبيق القواعد الدولية لحقوق الإنسان، لاسيما بدمجها بالتشريعات الوطنية والالتزام بها ومساءلة الذين يقومون بانتهاكها وتطبيق ذلك لا على المحكومين فحسب، بل على الحكام أيضاً، فإننا في العالم العربي مازلنا في بداية الطريق، وهذه محفوفة بالكثير من التحديات الداخلية والخارجية، فإضافة إلى محاولات فرض الهيمنة والاستتباع وتعطيل التنمية والعدوان المتكرر والاحتلال والحصار، فإن هناك تحديات داخلية تحول دون تأمين تطبيق القواعد الدولية لحقوق الإنسان، تارة بحجة الخصوصية وأخرى بزعم أن حقوق الإنسان اختراع مشبوه وبدعة غربية وثالثة لتعارضها مع تقاليد وموروث مجتمعاتنا، وليست في ذلك سوى رغبة في التحلل من الالتزام الدولي بشأن احترام حقوق الإنسان، الذي أصبح قاعدة ملزمة وآمرة.

وإذا كان لنا رافدنا الثقافي والتاريخي الذي نعتزّ به من حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبية، وبالأساس القرآن الكريم فإنه إسهام في الماضي، ولعله سيسهم في الحاضر، خصوصاً بتوافر إرادة التغيير والإصلاح واحترام حقوق الإنسان في إغناء وتطوير الفهم المتجدد لحقوق الإنسان، وليس العكس، لاسيما للقيم الكونية الشاملة.

* باحث ومفكر عربي