«في العصور (المسيحية) المُظلمة، كان الدين أفضل دليل يقود الناس كما يقود الأعمى في الظلمة مُبصراً، لأنه -أي الأعمى- يعرف الطريق، لكن في النهار يصبح حماقة أن يقود الأعمى مبصراً» - هانريش هاينه في العصور «المسيحية» المظلمة، كان الانسان يُقاد عبر التعاليم الدينية التي تخضع في مجملها للقائمين على الكنيسة، وما تركته تلك الأيام كنائس ضخمة ومبان ٍدينية متقنة البناء، أصبحت اليوم محجّاً للسياح والزائرين. تلك السطوة الدينية لم تترك صروحا علمية مماثلة والسبب ببساطة شديدة هو أنها لم تكن تمتلكها.
يعتقد البعض أن ما حققه العلم ليس أكثر من انقاذ الملايين من الأطفال من مرض الشلل بجرعات صغيرة في الفم لا تكلف سوى قروش قليلة، وتُعطى مجانا في مختلف بلدان العالم، وأن ما حققه العلم هو انقاذ الناس من الطاعون والأوبئة، وبأن العلم لم يحقق سوى تحسين الحياة السكنية الصحية والمواصلات والاتصالات وصهر الحديد والصلب.
هؤلاء يريدون للعلم أن يقتصر على ذلك ويقف عند هذا الحد، أما أن يتجاوزه الى الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والثقافة، فذلك مدخل لا بد أن يمر من تحت معطف رجال الدين.
سأناقش هنا الخطاب الثقافي الديني -أياً كانت ديانته- مقابل الخطاب الثقافي العلمي أو العلماني، ان شئتم.
في كل الأجناس الأدبية والفنية، يتراجع الخطاب الثقافي الديني تراجعا حادا أمام الخطاب العلماني، فتحت مجهر الخطاب الديني يُصنف أغلب الشعراء الذين شكلوا الذاكرة الشعرية في الشرق والغرب مارقين خارجين عن الدين وعليه. والشعراء أيضا لا يتفقون في طرحهم والخطاب الديني. الوضع لا يختلف في المشهد الروائي عنه في المشهد الشعري؛ فلم يقدم لنا الخطاب الثقافي الديني روائيا واحدا يمكن تصنيفه تحت بند «روائي»، مقابل عدد لا حصر له من الروائيين في الخطاب الثقافي العلماني يعاملهم الخطاب الثقافي الديني بعداء واضح، يصل الى الاعتداء على أحد شيوخهم بالسكاكين.
لم يقدم لنا الخطاب الثقافي الديني سينما ذات رؤية سينمائية دينية، يمكن أن ترفد الفن السينمائي، والأعمال الدينية أو التاريخية التي ناقشت رؤى دينية قدمها مخرجون لا ينتمون إلى هذا الخطاب الثقافي الديني، وان وافق على أعمالهم فهو لا ينكر عداءه لهم.
ولا أرى حاجة إلى التذكير بموقف يوسف شاهين صاحب الناصر صلاح الدين، أو العقاد صاحب الرسالة من الثقافة الدينية وموقف هذه الأخيرة منهما.
لم يقدم لنا الخطاب الثقافي الديني مسرحا تثقيفيا، ولا أقول ترفيهيا، يمكن لنا أن نسلط عليه ضوء النقد.
في المقابل قدم الخطاب العلماني أعمالا من التراث الديني العريض، لا يتفق معها ولا تتفق هي مع الخطاب الثقافي الديني.
الخطاب الثقافي الديني -أياً كانت ديانته- يتوافر على فائض مالي لم يتوافر له في أي حقبة سابقة، لكنه لم ينجح في بناء كيان علمي أو أدبي، فني أو تشكيلي، مسرحي أو سينمائي. على الرغم من انفتاح العالم الفضائي، لا نجد قناة واحدة تتناول الخطاب الثقافي الديني وتستقطب العامة، ناهيك عن الخاصة.
ختاماً، اذا فشل الخطاب الديني -أياً كانت ديانته- في أن يقدم علما ينقذ الناس من الأمراض، أو ثقافة أو أدبا أو مسرحا، فلماذا علينا أن نصدق أن بامكان هذا الخطاب أن يقودنا سياسيا واقتصاديا؟