تعليم مريض ورؤوس خاوية
«أخبرني سأنسى... أرني فقد أتذكر... أشركني سأعي وأفهم»... هذا مثل صيني ينطوي على حكمة عميقة لا يستلهمها إلا كل ذي عقل فهيم وبصيرة نيرة. وهي في حد ذاتها تصلح شعارا أو لافتة عريضة لنظام تعليمي ناجح، لأنها ترفض التلقين الذي يخاطب أردأ الملكات العقلية وهي «الذاكرة»، ويقوم في أصله على تدفق المعلومات من فم المعلم إلى آذان التلاميذ، فلا تستقر في أذهانهم إلا ساعات أو أياماً، ويتبخر أغلبها مع مرور الزمن، فتسقط بالتقادم، أو فور انتهاء الامتحانات. وتفضل هذه الحكمة المزاوجة بين السمعي والبصري في التعليم، لأنه أكثر قدرة على البقاء في الذاكرة والأفهام، لمخاطبته حاستين مترابطتين، لكنها تحبذ الحد الأقصى من نظام التعليم الذي يقوم على الحوار بين المعلم والتلميذ، فيشرك الأول الثاني في العملية التعليمية، ويتيح له فرصة إخراج كل ما لديه من طاقة عقلية، وقدرة على المناقشة العلمية والنقد، وصولا إلى الإضافة والإبداع.ومن أسف فإن أغلب النظم التعليمية في العالم العربي تنتمي إلى الطريقة الأولى، التي تعتمد على الحفظ والتلقين، وتوصد الباب أمام الابتكار وإنتاج الجديد والملائم، الأمر الذي حول مدارسنا إلى ما يشبه «الكتاتيب» وحول جامعاتنا إلى مدارس أولية، فضعف مستوى الخريجين، وتضاءلت قدرتهم على أن يحوزوا منهج تفكير مناسب في حل مشكلاتهم الحياتية، علاوة على عدم ملاءمة الأغلبية منهم لسوق العمل، لأن الجهات التعليمية التي مروا بها، ثم لفظتهم إلى الشارع، لم تعن بالتدريب، قدر عنايتها بالتدجين، وتعمدها سلب التلميذ في البداية والطالب في النهاية أي قدرة على التفكير المستقل، وأي منطق لبناء موقف من المجتمع والعالم، بل الكون الفسيح.
وأضر هذا الوضع ضررا بالغا بالبحث العلمي، فبات يدور في أغلبه حول «جمع المتفرق» أو «اختصار المسهب» و«تطويل المختصر»، ولم يرق إلى المستوى المناسب في تأدية وظائف البحث الأخرى ومنها «تجلية الغامض» و«استكمال الناقص»، ولا تلوح في الأفق أي بوادر على أنه سيصل عند أغلبية باحثينا إلى المرتبة الأسمى في البحث والتدقيق، وهي «نقد السائد» و«ابتكار الجديد»، وهما مرحلتان مهمتان ليس بالنسبة للعلم ومناهجه فحسب، بل أيضا بالنسبة للحياة العملية، بمختلف اتجاهاتها ومناحيها. فالمؤسسات التي تنتج كل شيء، ابتداء من الكلمة إلى الكتاب، ومن الإبرة إلى الصاروخ، في حاجة ماسة إلى طاقة بشرية فاعلة، تصبح قيمة مضافة إلى عناصر الإنتاج، أو تشكل رأسمالا بشريا حقيقيا. ولن يتأتى هذا إلا بتعليم ناجع، وتدريب جاد ومستمر. ومن دون ذلك لن يكون هناك تقدم، ولا نهضة. وقد طبقت الأمم القوية هذه الحكمة، فرأت في التعليم عمودا رئيسيا من أعمدة وجودها واستمرارها. وتستعيد الذاكرة في هذا المقام واقعة نرددها دوما للزعيم الفرنسي الكبير شارل ديغول حول أهمية التعليم، فهو عندما دخل إلى فرنسا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سأل صديقه الأديب الكبير أندريه مالرو، وهما يشهدان انهيار كل مرافق فرنسا ومؤسساتها وبنيتها التحتية: كيف حال الجامعة والقضاء؟ وعندما رد عليه قائلا: بخير، تهللت أسارير ديغول وقال: الآن أستطيع أن أعيد بناء فرنسا. إننا في حاجة ماسة إلى نظام تعليمي يلائم واقعنا، الروحي والمادي، ويوافق ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية. تعليم ينمي الثقافة العامة، والذوق الرفيع، والخلق القويم، والسعادة الغامرة، ويعيد صياغة علاقة الفرد بالحياة والكون على الوجه الأكمل، لينتشل الإنسان من أن يتحول إلى شيء أو سلعة رخيصة، ويراعي، في الوقت ذاته، حاجة سوق العمل، فيوفر لها كوادر مدربة على أفضل وجه ممكن. ولابد لهذا التعليم أن يراعي أيضا ضرورة تعزيز القدرة على التفكير غير النمطي، وتحسين تعامل الفرد مع المشكلات الحياتية بتفاصيلها الدقيقة، والتكيف مع الظروف التي تواجهه في حركاته وسكناته. فمن العبث أن تقذف مدارسنا وجامعاتنا إلى مختلف دروب الحياة كل سنة الملايين أناس غير قادرين إلى إدارة حياتهم بصيغة سليمة، ترتقي بها، وتوفر على الإنسان الوقت والجهد والمال. وحين يحقق التعليم هذه الغايات وتلك الأهداف فإنه يعزز «القدرة الناعمة» للدولة، بعد أن يدفع إلى شرايينها قوة بشرية جاهزة لكل الاحتمالات، في السراء والضراء، في السلم والحرب.* كاتب وباحث مصري