تعليم مريض ورؤوس خاوية
![د. عمار علي حسن](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1486988020208745100/1486988020000/1280x960.jpg)
وأضر هذا الوضع ضررا بالغا بالبحث العلمي، فبات يدور في أغلبه حول «جمع المتفرق» أو «اختصار المسهب» و«تطويل المختصر»، ولم يرق إلى المستوى المناسب في تأدية وظائف البحث الأخرى ومنها «تجلية الغامض» و«استكمال الناقص»، ولا تلوح في الأفق أي بوادر على أنه سيصل عند أغلبية باحثينا إلى المرتبة الأسمى في البحث والتدقيق، وهي «نقد السائد» و«ابتكار الجديد»، وهما مرحلتان مهمتان ليس بالنسبة للعلم ومناهجه فحسب، بل أيضا بالنسبة للحياة العملية، بمختلف اتجاهاتها ومناحيها. فالمؤسسات التي تنتج كل شيء، ابتداء من الكلمة إلى الكتاب، ومن الإبرة إلى الصاروخ، في حاجة ماسة إلى طاقة بشرية فاعلة، تصبح قيمة مضافة إلى عناصر الإنتاج، أو تشكل رأسمالا بشريا حقيقيا. ولن يتأتى هذا إلا بتعليم ناجع، وتدريب جاد ومستمر. ومن دون ذلك لن يكون هناك تقدم، ولا نهضة. وقد طبقت الأمم القوية هذه الحكمة، فرأت في التعليم عمودا رئيسيا من أعمدة وجودها واستمرارها. وتستعيد الذاكرة في هذا المقام واقعة نرددها دوما للزعيم الفرنسي الكبير شارل ديغول حول أهمية التعليم، فهو عندما دخل إلى فرنسا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سأل صديقه الأديب الكبير أندريه مالرو، وهما يشهدان انهيار كل مرافق فرنسا ومؤسساتها وبنيتها التحتية: كيف حال الجامعة والقضاء؟ وعندما رد عليه قائلا: بخير، تهللت أسارير ديغول وقال: الآن أستطيع أن أعيد بناء فرنسا. إننا في حاجة ماسة إلى نظام تعليمي يلائم واقعنا، الروحي والمادي، ويوافق ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية. تعليم ينمي الثقافة العامة، والذوق الرفيع، والخلق القويم، والسعادة الغامرة، ويعيد صياغة علاقة الفرد بالحياة والكون على الوجه الأكمل، لينتشل الإنسان من أن يتحول إلى شيء أو سلعة رخيصة، ويراعي، في الوقت ذاته، حاجة سوق العمل، فيوفر لها كوادر مدربة على أفضل وجه ممكن. ولابد لهذا التعليم أن يراعي أيضا ضرورة تعزيز القدرة على التفكير غير النمطي، وتحسين تعامل الفرد مع المشكلات الحياتية بتفاصيلها الدقيقة، والتكيف مع الظروف التي تواجهه في حركاته وسكناته. فمن العبث أن تقذف مدارسنا وجامعاتنا إلى مختلف دروب الحياة كل سنة الملايين أناس غير قادرين إلى إدارة حياتهم بصيغة سليمة، ترتقي بها، وتوفر على الإنسان الوقت والجهد والمال. وحين يحقق التعليم هذه الغايات وتلك الأهداف فإنه يعزز «القدرة الناعمة» للدولة، بعد أن يدفع إلى شرايينها قوة بشرية جاهزة لكل الاحتمالات، في السراء والضراء، في السلم والحرب.* كاتب وباحث مصري