ما تحقق في «اتفاق الدوحة» يعد إنجازاً تاريخياً تحقق بفضل الدبلوماسية القطرية النشطة التي أيقنت منذ البداية أنه لا مجال للفشل في هذا الأمر الذي تصدت له، إنه إيمان القيادة والثقه بالله والصدق في النيات والإخلاص في العمل والعزيمة والإصرار على النجاح، ومن قبل كل ذلك توفيق الله وسداده ولطفه.غمرت مشاعر البهجة والسرور الشارع العربي عامة والشارع اللبناني خاصة، وتوالت الإشادات والترحيب من مختلف الأوساط العربية والدولية، وتواصل سيل التهاني والتبريكات على القيادة القطرية بمناسبة نجاح الفرقاء اللبنانيين الذين اجتمعوا في الدوحة وتوصلوا في النهاية إلى «اتفاق» بينهم ينهي التأزم السياسي الطويل الذي خيم على الساحة اللبنانية وعرقل كل مشاريع التنمية والبناء.
لم يكن الوصول إلى هذا الاتفاق سهلاً فقد حضر الفرقاء بطائرة واحدة واحتواهم مكان واحد، لكنهم مكثوا خمسة أيام عصيبة في مشاورات شاقة ومباحثات مضنية تخللتها عثرات وصعوبات استوجبت تدخل سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني -أمير دولة قطر- شخصياً في أكثر من مرة حتى تم إنقاذ الحوار الوطني اللبناني بعد أن رجع إلى نقطة الصفر، وكاد أن يصل إلى حافة اليأس وينقطع كل أمل في أي حل، لكن لطف الله تدارك القوم، وحنكة القيادة القطرية حققت ما يشبه المعجزات، فاستحقت الإشادة والتهاني والتبريكات والفرحة.
لقد زف سمو الأمير في كلمته الختامية البليغة، «بشرى» النجاح للعرب والعالم جميعاً، معبراً عن بالغ تقديره وعرفانه للفرقاء اللبنانيين الذين «تحملوا مسؤولياتهم بشجاعة واتخذوا من المواقف ما يعلو على المشاعر واحتكموا إلى العقل والضمير تأكيداً لحق شعبهم اللبناني ومستقبله، ووفاء بعهدهم أمام الأمة والتاريخ» وهكذا أصبح ما كان يعتبر مستحيلاً حقيقة واقعة في ذلك اليوم التاريخي المشهود. ووصف سمو الأمير في كلمته الموجزة البليغة «الأيام العصيبة» بقوله: «لقد عملنا معاً أياماً شاقة وواصلنا الجهد -نهاراً بليل- وأطلنا الدرس ووسعنا الحوار، مدركين أن هناك حلاً واحداً حتى يتجنب لبنان مهاوي الفتنة والفوضى».
نعم ما تحقق في «اتفاق الدوحة» يعد إنجازاً تاريخياً تحقق بفضل الدبلوماسية القطرية النشطة التي أيقنت منذ البداية أنه لا مجال للفشل في هذا الأمر الذي تصدت له، وهو ما عبر عنه سمو الأمير بقوله: «لم يكن يخالجنا شك حين دعونا إلى هذا الحوار اللبناني-اللبناني، في الدوحة أنه واصل بمشيئة الله إلى نجاح» إنه إيمان القيادة والثقه بالله والصدق في النيات والإخلاص في العمل والعزيمة والإصرار على النجاح، ومن قبل كل ذلك توفيق الله وسداده ولطفه.
لقد عمت الفرحة جموع الشعب اللبناني وعادت الابتسامة إلى وجوههم بعد المعاناة والمرارات على امتداد 18 شهراً وتنفس اللبنانيون الصعداء واستقبلت الشوارع العربية بيان «اتفاق الدوحة» بكل مشاعر الترحيب والارتياح والإشادة بالدور القطري البناء إضافة إلى الأصداء الإيجابية الواسعة للاتفاق في مختلف وسائل الإعلام العالمية التي أجمعت على إبراز الدور القطري، خصوصا في إخراج الأزمة اللبنانية من عنق الزجاجة وتجنييب لبنان الوقوع في براثن حرب أهلية.
وقد رأت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية أن «القطريين حققوا في غضون أسبوع ما لم يتمكن الفرنسيون والجامعة العربية من القيام به في شهور من المحادثات».
لقد ذكرت في مقالتي السابقة «الحوار اللبناني في الدوحة وأهمية الدور القطري» ما نصه: «لا شك في أن هذا الإنجاز المبدئي، يشكل حدثاً مهماً في تاريخ الحياة السياسية العربية، إذ إنه لأول مرة وعلى امتداد سلسلة الأزمات العربية وعبر نصف قرن، يتمكن العرب من الاتفاق على -حل- للأزمة اللبنانية وينجحون في إقناع كل الأطراف السياسية المتصارعة في الساحة اللبنانية بضرورة الجلوس إلى طاولة واحدة لإجراء حوار وطني يستهدف مصلحة لبنان وأمنه واستقراره» توضيح هذا الأمر مهم هنا، إذ لاشك أن النجاح القطري محسوب ومنسوب إلى نجاح العمل العربي المشترك، فلولا الدعم والتأكيد والاحتضان العربي القوي لجهود اللجنة الوزارية العربية المشكلة من قبل الجامعة التي وصف سمو الأمير جهودها بـ«الخلاقة» لأنها «تحملت بعناء مهمة صعبة وعسيرة إلى درجة الاستعصاء» ما تمت ولادة -اتفاق الدوحة- وما خرجت من مخاضها العسير، ومن هنا نتفهم تصريح الوزير العماني بن علوي من أن اتفاق الدوحة «قفزة كبيرة في العمل العربي المشترك» ونجاح قطر في هذا الإنجاز التاريخي يمثل نجاحاً للجامعة العربيه، وقد عبر السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة، عن هذا المعنى بقوله: إنه نجاح للعرب -عندما يتحدون- مؤكداً «أن اتحاد العرب يمكّن الجامعة العربية من القيام بدور إيجابي في حل الملفات الساخنة» وأضاف أن «اتفاق الدوحة» شامل ونهائي وليس هدنة، وقد حظي بحضانه دولية وإقليمية.
لقد كنت في مقالتي السابقه، مستشرفاً آفاق الحل، متفائلاً بوصول الفرقاء إلى مخرج سياسي يرتضونه رغم الأجواء التشاؤمية التي تخللت المحادثات وجعلت بعض الكتاب يسارعون بالقول: إنه لا أمل في أي حل، بل دفعت بعضهم إلى القول إنه سيحلق نصف شاربه إذا نجح الفرقاء إلى الوصول إلى اتفاق.
لقد كان رهاني على النجاح يقوم على أمرين:
الأول: أن قطر عندنا تصدت للمهمة وقبلت استضافة واحتضان زعماء لبنان عندها، ما كانت لترضى بأمر دون النجاح ولم تكن لتترك الأمور تمضي من غير انفراج ينقذ لبنان من المحنة، ولذلك كان سمو الأمير يفاجئ المجتمعين إذا تأزمت الأمور وانسدت الأبواب، لقد قرر -حفظة الله- ألا ينام قبل جمع شمل الإخوة اللبنانيين انطلاقاً من قطر- كما ذكر السيد خلف أحمد الحبتور في كلمته الرائعة- كما كان معالي الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء متواصلاً باستمرار مع كل الفرقاء وبمهارة عالية يطرح المبادرة تلو المبادرة بهدف تقريب وجهات النظر وتذليل الصعوبات.
ثانياً: تنامي شعور القيادات اللبنانية بالدوحة بأنه لا مجال للفشل وقد جاؤوا في طائرة واحدة واجتمعوا في مكان واحد خمسة أيام، فماذا يقولون إذا رجعوا إلى الشعب اللبناني ولم يحققوا شيئاً؟! ألا يهز ذلك من مصداقيتهم ويظهرهم غير جديرين بالمسؤولية؟ كيف يواجهون تلك الجموع التي خرجت تحمل لافتات تقول: لا تعودوا إذا لم تتفقوا؟! ماذا يقولون للعرب وقلوبهم كلها معلقة على محادثاتهم وأنظار العالم متجهة إليهم؟ لذلك كله لم يكن الفشل وارداً لا أمام القيادة القطرية ولا أمام الفرقاء.
دعونا الآن نتساءل: كيف نجح الرهان القطري؟ وما العوامل التي ساعدت على «اجتراح المعجزة» بحسب تعبير السيد نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني؟
-1 تقوم الدبلوماسية القطرية على ركيزتين أساسيتين «العقلانية» و«الواقعية» كمنهج استراتيجي في العلاقات الدولية، وهو يتيح لقطر أن تكون على مقربة من مختلف الأطراف السياسية والإقليمية والدولية فتكسب ثقتها وتتمتع بالمصداقية، ومن ثم تستطيع قطر أن تستثمر هذه العلاقة المتميزة في بذل المساعي الحميدة وتقريب وجهات النظر بما يحقق حل الأزمات و خدمة السلام والاستقرار.
وهذا ما عبر عنه السيد نبيه بري في خطابه للأمير «شكراً لقطر، شكراً لأميرها الذي كفكف دموع الأيامى واليتامى، وأعاد البناء ودعم المقاومة، فشكراً ثم شكراً، لأنك الآن أيضاً تواسي وتؤاسي ليس أهل الجنوب فقط، إنما كل بيت في لبنان» مثلما عبر عنه رئيس مجلس الوزراء اللبناني السيد فؤاد السنيورة «إن ما قامت به قطر سيبقى يذكره اللبنانيون بضمائرهم، بعيونهم، بأهدابهم»
-2 إن تحقيق النجاحات على مستوى العلاقات الخارجية ما هو إلا انعكاس صادق لمجمل نجاحات الداخل لأن المصداقية الخارجيه لا تأتي إلا ببناء مصداقية داخلية عبر إنجازات محققة وملموسة، وقد استطاعت قطر تحقيق سلسلة من الإصلاحات الداخلية تمثلت في إصلاحات سياسية متوازنة، وإصلاحات اجتماعية متدرجة ومنضبطة، وإصلاحات اقتصادية مدروسة وإصلاحات تعليمية وتشريحية متطورة.
-3 لقد أصبحت قطر رقماً مهماً في السياسة الدولية والجميع اليوم يخطبون ودها ويطلبون وساطتها، وهذا يثبت أن الدول لا تقاس بحجم مواردها ولا سكانها ولا مساحتها ولكن بدورها البناء ومساهمتها الخارجية الإيجابية وإداراتها السياسية السليمة وحسن توظيفها لمواردها وثروتها البشرية، وأيضاً حسن استثمار علاقات التحالف والشراكة والصداقة بالأطراف الدولية المختلفة بما يعود بالنفع على شعبها والشعوب الأخرى.
ولقد استطاعت قطر عبر صيغة نموذجية لعلاقاتها بالدور الكبرى خصوصاً أميركا من ناحية أن تحتفظ بعلاقات متميزة أيضاَ بالدول المناوئة لأميركا، وأن تحتضن كذلك أطرافاً ورموزاً وشخصيات مناهضه لأميركا من ناحية أخرى، وهذا مكّنها من أن تلعب دور الوسيط الخير بمهارة عالية، ولذلك قالوا، حيثما تتأزم الأمور فقطر هي المؤهلة للحل.
-4 مارست الدبلوماسية القطرية «تكتيكاً» ذكياً، فبعد أن ضمنت موافقة «الأكثرية» على مبادرة اللجنة العربيه أمهلت «المعارضة» «24» ساعة لحسم خيارين: قبول الصفقة كلها أو رفضها كلها، ولم تكتف بذلك بل اتصلت بالأطراف الإقليمية المؤثرة على المعارضة طلباَ لعونها، وهكذا لم تجد المعارضة مفراً من القبول، لأن الرفض يعني تعريضها للغضب الشعبي العام اللبناني والعربي والإسلامي فضلاً عن انكشافها سياسياً أمام أنظار العالم.
* كاتب قطري