لعل واحدة من المفارقات الأبرز للاقتراع الأميركي الأخير، أنه إذ اجترح استثناءً، ومن حيث فعل ذلك، آل بالبلد إلى ضرب من عاديّة، وأدرجه، بمعنى من المعاني، ضمن سوية سائر البلدان، إذ إن الاقتراع ذاك قد يكون خرج بالولايات المتحدة من نسق التأسيس، المتمادي دون توقّف منذ أن بعثت إلى الوجود كيانا قائم الذات. فما الذي نعنيه بذلك؟
أما عن جانب الاستثناء في ذلك الحدث، فهو معلوم أسهبت في تناوله الألسن والأقلام بما يغني عن العودة إلى الخوض فيه، وهو ذلك المتمثل في انتخاب رئيس ملوّن، بل أسود (وفق التعريف الأميركي التقليدي، يدرج الخلاسيين في عداد السود، فيقصيهم بذلك اجتماعيا إذ يصِمُهم عرقيّا)، فبوأه منصب الرئاسة الأولى، ذلك الذي كان، منذ أن قامت الفدرالية الأميركية، حكرا، أو يكاد، على «الواسبيين» (WASP)، من البيض، عرقا، ومن الأنكلوساكسونيين إثنيةً، ومن البروتستانت ديانةً...وأما عن تلك «العاديّة» (نحتفظ بهذه العبارة حتى الاهتداء إلى أخرى تكون أكثر إيفاءً بالغرض)، فهي تلك التي تفيد عودة الولايات المتحدة إلى ذاتها، بلدا يبحث، أسوة بكل البلدان ربما، عن أسباب تطوره من داخله وفي داخله، يستقي من ذلك الداخل آفاق مستقبله وأدوات رسم ذلك المستقبل وبلوغه، تحديات يستجيب لها ويجهد في تجاوزها وتذليل ما أشكل منها حتى بلغ مبلغ الإعضال، شأن تلك المسألة العرقية، تلك التي تسللت إلى قلب المشروع الأميركي، وهو الذي حسب نفسه دوما مشروعا تحرريا، تدحضه من داخله وتسفّه ادعاءاته، إذ جعلته ينطوي على أقصى الظلم وعلى أفدح آيات التنكر للمبادئ الإنسانية، استرقاقا في حق السود، ممن استُجلبوا من القارة الإفريقية، ضربا من مادة خام بشرية، أو دون البشرية، ثم سامتهم تمييزا، محكما مطبقا يستند إلى قوة القانون، خصوصا في ولايات الجنوب، ما ألحق بفكرة القانون ذاتها، وبالمبدأ القائل إن الدولة الديمقراطية إنما هي «دولة القانون»، إساءة بالغة.صحيح أن الولايات المتحدة حاولت مرارا التصدي لذلك الإشكال العرقي، ولكن نصيبها من الإخفاق كان، في كل مرة، هو الحصيلة الأوفر. فقد كلفها الأمر حربا أهلية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نجحت في إنهاء الرق، ولكنها لم تنه التمييز العنصري، الذي استمرّ حتى ستينيات القرن الماضي، فلم تودِ به حركة «الحقوق المدنية» إلا كي تخلّف مكانه تمييزا من ضرب آخر، مضمر غير معلن، ولكنه، بدوره ومن ناحيته، شديد الفتك، من طينة اجتماعية هذه المرة، يستمد من الإيديولوجيا النيو-ليبرالية المغالية، شرعيته وضراوته في آن.ما استجدّ هذه المرة، مع انتخاب أوباما، لا يتمثل فقط في تجاوز ذلك الإشكال العرقي المقيم، أقله على الصعيد السياسي، بفصل التمثيلية السياسية عن الواقع العرقي بعد أن كانا متطابقين (وذلك ما يستوي في ذاته تحولا هائلا يتعين سبره على حدة)، وعلى مستوى الحقل الرمزي، الذي قد لا يطال حقيقة الوضع الاجتماعي وتراتبه، فلذينك شأن آخر، مختلف وأكثر تعقيدا، بل إن أهمية ذلك المستجدّ ربما تمثلت في ما يتعدى ذلك الإشكال العرقي نحو ما هو أبعد منه تأثيرا وغورا.إذ إن السمة الفارقة لهذا التحول الأخير، أنه قد يكون الأول من نوعه، بحجمه وبعمقه، في التاريخ الأميركي، الذي لم يحتل فيه مفهوم «الحدود» موقعا مركزيا ومحوريا. كان ذلك المفهوم حاضرا بقوة، في التحوّلات الكبرى التي شهدتها مغامرة الوجود الأميركي، بمعنى الاستجابة لتحديات خارجية، عالما بكرا يُسعى إلى أنسنته، أي «أمركته»، أو عالما معاديا يُصار إلى فتحه باسم «المبادئ الأميركية» أو ذلك «الحلم الأميركي» (على ما يسميه أصحابه) الذي كان يلوح دوما في طور التأسيس، حدودا لا تني تُفتح، منذ زمن أتباع النّحل الدينية الذين فروا من اضطهاد القارة القديمة نحو «عالم جديد» جعلوه بمنزلة «أرض الميعاد» إلى غزو الفضاءات الشاسعة للغرب الأميركي، إلى غزو الفضاء الخارجي وبلوغ القمر، إلى الحرب الباردة التي جسّدها جدار برلين الذي كان يمتد وراءه عالمُ التوتاليتارية والاستبداد، والذي كان يتعين بذل الجهد، تعبئةً بلغت النجوم (إن صدقنا تعبير «حرب النجوم» كما سُكّ في عهد رونالد ريغان)... وفي كل ذلك، عنى مفهوم «الحدود» عند الأميركيين، غير ما عناه ويعنيه عند سواهم، فهو لم يكن الحاجز الذي يتوقف عنده الفعل، بل المنطلق لذلك الفعل، تمددا، ماديا ترابيا، أو رمزيا معنويا، فكان محركًا لتاريخهم أو أحد محركاته الأفعل.اعتبارا لكل ذلك، يمكن القول إن خاصية اقتراعهم الأخير وما أفضى إليه من نتائج، وهو حتما في عداد التحولات الكبرى في تاريخهم، قد تحقق من خلال العودة إلى الذات وتحدياتها الداخلية، الحميمية والتكوينية، فكان مفهوم «الحدود»، كما سبق توصيفه، منها براء، ما قد يفيد إنهاؤه لاستثناء أميركي وعودته به إلى «العاديّة».واللافت في ذلك الأمر، أنه تحقق على يدي مواطن- ناخب وُصف بأنه «مواطن زمن العولمة»... لكن ذلك موضوع آخر.* كاتب تونسي
مقالات
نهاية الاستثناء الأميركي؟
18-11-2008