خاطب يوسف العاني في فيلم «سعيد أفندي» ضمائر الناس وأحاسيسهم ومشاهده غطت أو عبرت عن حاجة في النفس، لكنها لم تف بكل الحاجة، فالناس كانوا يريدون المزيد من الكشف عن حالات جديرة بأن يكشف عنها.

Ad

في سيرته السينمائية «استذكارات بين الظلام والضوء» الصادرة عن دار الفارابي، يستعرض الفنان العراقي المعروف يوسف العاني التجارب السينمائية في العراق منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، ومن خلال الحديث عن دوره الشخصي في تلك التجارب، يركز بصفة خاصة على فيلم «سعيد أفندي» الذي يعد، بالنسبة للكثيرين، أيقونة السينما العراقية.

وقد استوقفتني، في ذلك الحديث، لمحة إنسانية عابرة، قد لا يلتفت اليها البعض في خضم المادة الأساسية المكونة للسيرة، لكنها، على بساطتها وعفويتها، تترك في النفس أثرا كبيرا من حيث كونها تلخيصا لجوهر كينونة الفنان، في صلابته أمام إغراءات اللحظة، وقدرته المبدئية على الانتصاف من نفسه حتى للنظام الزائل الذي كان يناوئه. لم يكن «سعيد أفندي» أول فيلم عراقي، فقد سبقه بثماني سنوات فيلم «عليا وعصام» الذي أدى الدور الأول فيه الفنان الراحل إبراهيم جلال، لكنه كان أول فيلم عراقي خالص بطاقمه الفني وقصته وإخراجه وتصويره، وبتبنيه أسلوب «الواقعية الجديدة» الذي برع فيه المخرج الإيطالي «دي سيكا» بالخروج من الاستوديو الى الشارع، وإشراك الناس العاديين في تمثيل أحداث الفيلم.

وقد قدر ليوسف العاني أن يتحمل القسط الأوفر من مسؤولية هذا الفيلم المأخوذ عن قصة «شجار» للكاتب العراقي إدمون صبري، وذلك بإعداده القصة سينمائيا، وكتابته السيناريو والحوار، وأدائه الدور الاول فيه.

عرض «سعيد أفندي» عام 1957، أي قبل عام واحد من ثورة 14 يوليو التي أنهت العهد الملكي. وقد بلغ من شدة صدقه الفني أن الناس الذين تفاعلوا معه وأحبوه قد تخيلوا مشاهد لم تكن موجودة فيه، وأوهموا أنفسهم بأن الرقابة قد حذفتها!

وحتى هذا اليوم، تجد كثيرا من العراقيين يحدثونك -عندما تذكر فيلم سعيد أفندي- عن مشهد ذهب فيه الاستاذ سعيد ليشتري سمكة، وقال للبائع إن «السمكة جايفة من الرأس».. ويعدون ذلك أبلغ تعريض بالحكومة في ذلك الوقت.

الطريف في الأمر أن مشهدا كهذا لم يكن موجودا في الفيلم أصلا، والأطرف من ذلك أن يوسف العاني نفسه، صانع الفيلم وبطله، كان هد هزم في نقاش مع متفرج عراقي -قابله في الخارج- حين ألح الأخير على وجود هذا المشهد وأنه رآه في النسخة الأصلية قبل أن تقتطعه الرقابة.. بل أضاف مشاهد أخرى غير موجودة وزعم أن الرقابة حذفتها وعبثا حاول العاني إقناعه بعدم صحة ذلك!

وفي تحليله لهذا الأمر يقول العاني إنه أدرك أن الفيلم قد خاطب ضمائر الناس وأحاسيسهم وأن مشاهده قد غطت أو عبرت عن حاجة في النفس، لكنها لم تف بكل الحاجة، أي أن الناس كانوا يريدون المزيد من الكشف عن حالات جديرة بأن يكشف عنها. وهكذا تجمعت قضايا كثيرة غير موجودة في الفيلم ظنوا أنها كانت موجودة لكن الرقيب حذفها.

وبعد عودة يوسف العاني الى بغداد كان النظام الملكي قد سقط وقام مكانه النظام الجمهوري، وذات ليلة من ليالي الترحيب به طرحت عليه فكرة بدت له غريبة أول الأمر، بل حسبها دعابه، وذكرته حالا بالرجل العراقي الذي ناقشه حول الفيلم عندما كان في الخارج.

يقول العاني: إن الفكرة كانت تتمثل في أن تضيف مشاهد جديدة تشبع حاجة المتفرج، وبعد أن أمثلها تضاف الى الفيلم الذي عرض على الناس.. ولكن بعد أن نعلن قائلين: «يعرض سعيد أفندي بعد أن أعيدت اليه اللقطات التي حذفها الرقيب»!

ويضيف: هنا كان لي موقف حاسم وعنيف.. أن أرفض باستنكار وصلابة هذه الطروحات وأن أبذل الجهد لكي ألتقي بالأستاذ «ممتاز العمري» الذي كان مدير الداخلية العامة، الرجل الفذ الذي أجاز الفيلم بكامل مشاهده ولقطاته وحواره بعد قصة طويلة ومثيرة، وذلك لكي أشكره وأعبر له عن احترامي لموقفه. وقد تحقق لي ذلك بعد أشهر.

هي لمحة بسيطة، لكنها جميلة جدا ومؤثرة جدا، لأنها تمثل نحاجا للجوهر الإنساني عند وضعه أمام اختبار الإنصاف وهو مدرّع بكل إغراءات القوة والقدرة وسنوح الفرصة.

* شاعر عراقي