أسفرت الأزمة المالية والضائقة الائتمانية، وما ترتب عليهما من انحدار اقتصادي، عن إلحاق الضرر الشديد بمصداقية الأسواق والمؤسسات المالية والتجار. وأصبح المزيد والمزيد من الناس يزعمون أن الأسواق تتسم بالطيش والتهور والفقاعات والبدع والهستريا، وأن الجهات الفاعلة في الاقتصاد تتحرك وفقاً لنـزعات وانحرافات سلوكية.
والحقيقة أن كتاب جورج سوروس الذي صدر أخيراً عن أزمة الائتمان يشكل مثالاً طيباً لهذا الخط من التفكير. حتى أنه ذهب إلى أن النظرية المالية المعترف بها أصبحت عتيقة بالية. ووجهة نظره تعني في جوهرها أن الأزمة المالية الحالية تشكل دليل الإثبات الأخير على أن الأسواق غير قادرة على معالجة المعلومات بكفاءة. وإذا كان هذا صحيحاً فإننا أقرب إلى وجهة نظر جون ماينارد كينـز التي ترى أن السوق عبارة عن كازينو للقمار من وجهة نظر فريدريك فون هايك التي ترى أن السوق آلية رائعة لمعالجة المعلومات المتفرقة.على سبيل المثال، كان الارتفاع الأخير في أسعار النفط مدفوعاً بنوبة مؤقتة من الجنون في أسواق التعاقدات الآجلة. ولابد أن الجهات العاملة في السوق قد أخطأت في حساباتها على نحو منتظم بسبب فرط ثقتها في معلوماتها والمبالغة في الاستجابة للأنباء. إلا أنني أعتقد في وجود تفسير آخر لهذه الظواهر، وهو تفسير يقوم على حسابات متعقلة ومعالجة للمعلومات من جانب المؤسسات والتجار.إن المشاكل التي نراها في الأسواق المالية ترتبط إلى حد كبير بالافتقار إلى المعلومات الجيدة، والحوافز المضللة، والاستجابة المتعقلة للبيئة المحيطة. فحين تكون المعلومات نادرة وموزعة على نحو متفاوت، فقد تحيد الأسعار عن الواقع الذي تفرضه العوامل الأساسية.ونحن نرى هذا حين تصل إلى الساحة تكنولوجيات جديدة. وفقاعة الإنترنت من بين أحدث الأمثلة على ذلك، بيد أن ظاهرة مماثلة حدثت مع إنشاء السكك الحديدية قبل أكثر من قرن من الزمان. وقد يزعم بعض المحللين أن حزم القروض المعقدة التي أنشأتها البنوك أثناء الأعوام الأخيرة كانت أيضاً بمنزلة منتجات جديدة غير معروفة، وعلى هذا فإن المعلومات والخبرات اللازمة لتسعير هذه المنتجات كانت نادرة ومتفرقة.وفي مثل هذه الظروف فقد تتحرك الأسعار بعيداً عن العوامل الأساسية طبقاً لتقييم الحكمة الجماعية الافتراضية التي من شأنها أن تجمع كل المعلومات من السوق. وعلى هذا فإن المتاجرة استناداً إلى زخم تحركات الأسعار قد تشكل نشاطاً متعقلاً ذاتي التحقيق، حين يقرر المستثمرون «امتطاء الفقاعة» مادامت مستمرة. وتزداد الفقاعة تضخماً من جراء التفاوت بين أولئك الذين يراهنون على ارتفاع الأسعار فيشترون، وهؤلاء الذين يتوقعون انخفاض الأسعار ولكنهم يظلون بعيداً لأن بيع ما لا يملكون ثم شرائه من جديد بسعر أقل والاحتفاظ بالفرق أمر مكلف للغاية. وهذا يعني أن انحراف الأسعار عن القيم الأساسية بنسب كبيرة ولمدد طويلة نسبياً أمر ممكن، بل وقد يكون مرجحاً حين تكون المعلومات متفرقة- ولكنه يعني أيضاً أن التصحيح لمواءمة الأسعار من جديد مع الواقع سوف يتلو ذلك دوماً. وفي النهاية فإن أسعار الأسهم تعكس العوامل الأساسية للاقتصاد. وهذا يفسر لنا لماذا قد تبدو الأسواق أشبه بكازينو كينـز في الأمد القصير في حين قد تبدو كأعجوبة هايك في الأمد الطويل.إذن، كيف يفسر هذا فرط تعرض العديد من المؤسسات لمخاطر الرهن العقاري الثانوي وانهيار سوق الإنتربنك؟ وهل كانت البنوك التي اختارت تحويل قروض الرهن العقاري إلى أوراق مالية بدلاً من إبقائها على دفاتر موازناتها تتصرف بتعقل؟ مرة أخرى، نستطيع أن نقول إن عدم التناسق المعلوماتي والحوافز غير المرتبة من العوامل الكامنة في قلب ما حدث.إن حفظ مثل هذه القروض في الدفاتر يعني أن البنك كان قد يضطر إلى تجشم عناء توفير كفاية رؤوس أموال ضخمة فضلاً عن مراقبة أداء القروض، بتكاليف لن يتحملها غيره. وبتحويل القروض إلى أوراق مالية تجنبت البنوك مثل هذه التكاليف وطرحت المنتج الجديد على نحو متميز- وذلك بالتواطؤ مع وكالات التسعير، التي كانت راغبة في التربح من افتقار المستثمرين إلى الخبرة ونقص المعلومات. ولقد جمع المسؤولون التنفيذيون مكافآت سخية، وكان حملة الأسهم محميين بفضل المسؤولية المحدودة. إن الفشل المعلوماتي على وجه التحديد من الأسباب المحتلمة التي أدت إلى انهيار سوق الإنتربنك. وهذه ظاهرة معروفة؛ والحقيقة أن دراسة سوق السيارات المستعملة كانت سبباً في حصول جورج أكرلوف على جائزة «نوبل» في الاقتصاد. ومازالت البنوك لا تثق في بعضها بعضا، لأن كل بنك يتساءل عن عدد الهياكل العظمية التي تحتفظ بها البنوك الأخرى في خزانتها. ولا نستطيع أن نصف هذا باللاعقلانية.إن النقاش الدائر حول لاعقلانية الأسواق المالية ليس مجرد حجة أكاديمية. فحين نعتقد أن الجهات الاقتصادية الفاعلة غير عقلانية، فهذا يعني أننا سوف ننتهج سياسات أبوية تهدف إلى السيطرة على السلوك أو إنقاذ المؤسسات الفاشلة، وهو الأمر الذي قد يكون مدمراً للذات وخطيراً. وقد يتضمن هذا فرض القيود على الاستثمارات التي ينفذها الأفراد والمؤسسات، وفرض تنظيمات متطفلة تؤدي إلى الحد من نشاط هؤلاء الأفراد والمؤسسات أو إملاء السلوك الواجب عليهم في الأسواق.الحقيقة أن الأصوات المنادية بالحد من المضاربة في أسواق المشتقات أو ممارسات البيع ثم الشراء بأسعار أقل تحمل النبرة نفسها. ولكن إذا ما اعتقدنا من ناحية أخرى في قدرة الجهات الاقتصادية الفاعلة على الاستجابة بتعقل للحوافز والمعلومات، فحينئذٍ نستطيع أن نعمل على نحو مفيد على إصلاح الهياكل التنظيمية بالاستعانة بتدابير جيدة التوجيه، بما في ذلك فرض القيود على استخدام الأدوات غير المسجلة في دفاتر الموازنة، وتشديد متطلبات الكشف عن المعلومات، وفرض الضوابط على تضارب المصالح بين وكالات التسعير والتصنيف.* خافيير فايفس، أستاذ علوم الاقتصاد والتمويل بكلية IESE للتجارة، ومؤلف كتاب «المعلومات والتعلم في الأسواق».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
البدع والهستريا والتمويل
19-01-2009