خذ وخل: تيتمنا برحيل الأمير الوالد 2

نشر في 18-05-2008
آخر تحديث 18-05-2008 | 00:00
 سليمان الفهد * حين زار سمو الأمير الوالد، رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته «المركز الإعلامي» الذي أنشأه الصامدون بعد التحرير في منطقة الجابرية، احتضنته زغاريد المواطنات الصامدات، وتحلق حوله الأطفال والصبيان، مشبعين إياه قبلات وأحضاناً تليق بحبهم الصادق الشفاف، مما حرضه على الاستجابة لهذه المشاعر بالالتحام بالناس، بمنأى عن «التوجس» الذي كان يستحوذ على رجال الأمن، الذين كانوا يحيطون به من كل صوب، بداعي حرصهم على حمايته من أي خطر! لا سيما أن الوطن وقتها لم يكن خالياً من فلول الطابور الخامس، وجنود «صدام» وأزلامه الذين ربما كانوا موجودين، آنذاك، لإحداث الفتن العديدة، مستغلين الظروف المربكة التي سادت البلاد وقتذاك.

وعلى الرغم من جهود رجال الأمن الصارمة الساعية إلى عزله عن أي احتكاك بالجمهور، درءاً لأي خطر محتمل، لكنه تجاهل خريطة الطريق الأمنية، والتحم بالجماهير الغفيرة القادمة من كل صوب، كما نوهت آنفا. يومها التفت إليّ وزير سابق كان بمعية سموه قائلاً: هذه أول مرة أشاهده فيها يبتسم ويضحك، ويعود إلى سيرته الأولى، المتبدية في الالتحام بالحشود بطمأنينة ووله لا تخشيان في حب المواطنين وغيرهم، لومة لائم من رجال الأمن والحراسة!

وكان الصامدون قد أعدوا له «غبقة» رمضانية طابت في مطابخ منازلهم، لكن الوزير السابق إياه أبدى خشيته من الطعام، وأصر على أن يشمه ويتذوقه قبل أن يتناوله الأمير الوالد! وسارعنا قبله بتناول «الغبقة» دلالة على رفضنا إهانته وشكه في المواطنات الصامدات اللواتي أعددن هذه الوليمة الاحتفالية البسيطة المعبرة عن حبهن الشديد لفارس التحرير، ولعلني لست بحاجة إلى الإشارة إلى أن سموه بادر بتناول عينات من المائدة من دون أن يعبأ بسلوك الوزير المرَضي!

* وفي قصر الشعب حيث كان يجتمع كل ليلة بنخبة من المواطنين المجسدين لكل ألوان الطيف السياسي في البلد، بعد التحرير بسنة، كان يصيخ السمع إلى مداخلة كل متحدث بسعة صدر وأناة، فيسجل ملاحظاته بنفسه، ومن ثم يعقب على المداخلة إن كانت تستأهل ذلك. وأذكر بهذه المناسبة، أن مداخلة الصديق الدكتور عبدالله فهد النفيسي كانت محاضرة جامعة مانعة متمحورة حول سياسة الكويت الخارجية بعد محنة الاحتلال وملحمة التحرير، وإذا لم تخني الذاكرة فأحسب أنه طلب من أحد مساعديه تعميم محاضرة الدكتور «النفيسي» على السفارات الكويتية، لما تنطوي عليها من سياسة خارجية حرية بأن تتبناها الحكومة، وتعمل بها من دون تحفظ قد ينشـأ من جراء صراحة «بو مهند» المعهودة، الحريصة على وضع النقاط على الحروف، وتسمية الأشياء بمسمياتها، من دون مواربة ومراوغة، كما هو دأبه.

وفي أحد هذه الاجتماعات، عشية أحد الأيام سمعنا طلقات نارية أثارت خشية الحاضرين وقلقهم، لكن سموه جابه الموقف بسكينة وهدوء حرضتا بعضنا على الطلب منه توخي الحذر والحيطة، إلا إنه راح يصول ويجول لمعرفة مصدر إطلاق النار وسببه، ولم يكف عن الحركة إلا بعد معرفته بأن السبب يكمن في إطلاق الرصاص من بندقية جندي حراسة أثناء تنظيفه لها داخل ساحة القصر، إن الواقعة قد تبدو عادية لو أنها حدثت في أيام عادية، ولكنها ليست كذلك كونها تمت في وقت كان الوطن فيها مشحوناً بالتوتر والسلاح، والأيام كانت حبلى بالمفاجآت بعد التحرير!

إن الاقتراب من السيرة الذاتية لسموه يفضي بنا إلى عالم غني بتجربة واسعة سمتها الأساسية العمل الدؤوب لأجل مصلحة البلاد والعباد من دون كلل أو ملل، يتبدى ذلك كله في المهمات الرسمية، واللجان العليا العديدة التي اضطلع بها سموه من بداية مسيرته العملية، وعلى طول امتداد حياته، فضلا عن قيادته ملحمة تحرير البلاد وإعادة عمارتها أرضاً وسكاناً إلى حين استعادتها عافيتها في شتى المناحي، فحق له أن يكون بطل التحرير والسلام على حد سواء.

* إن الحزن الشفيف الذي غمر قلوب الناس، مواطنين ومقيمين جميعاً استجابة لرحيله كان بمنزلة «مبايعة» أخرى تجدد له بيعته الأولى التي تمت في حياته الأميرية، وحال المرض دون استمرارها، لقد صار الكويتيون على قلب واحد حين وفاته رحمه الله وغفر له، وتناسوا خلافاتهم الفكرية والسياسية، ليعبروا عن حبهم الشديد لشخصه إنساناً وقائداً مسكوناً بحب الوطن من دون حد.

* ومن هنا كان المواطنون جميعاً يشاطرونه حبه لهم من دون حد أيضا، وحتى أولئك الذين يختلفون معه في السياسة والمواقف كانوا بدورهم يحبونه ويحترمون فيه الإنسان الوطني الغيور على الوطن، المسكون به حيثما كان... ومن هنا أيضا كان بديهياً أن يبادله الوطن مشاعره، وأن يتوحد كله يوم رحيله! وحين أقعده مرضه الأخير ولم يمكنه من ممارسة عادته الأثيرة إلى نفسه الكامنة في التواصل مع الشعب، عبر الاختلاف إليهم، وزيارتهم في دواوينهم، في أشهر رمضان المتعاقبة طوال سني حياته، كف الأطفال عن الاحتشاد أمام الدواوين؛ استعداداً لاستقباله واحتضانه وتقبيل وجنتيه وهامته الشامخة، وأحسبهم شعروا بأن طقوس شهر رمضان الاجتماعية: باتت ناقصة ومبتورة! وكيف لا يكون الأمر كذلك، بينما «هلال» رمضان الاجتماعي غائب عن فضائه المترع بالتواصل والمحبة، والأبوة الروحية الصادرة عن سلوكه الريان بحب الصغار والكبار سواء، كما لو أنهم من صلبه! والذين يخبرونه عن كثب، وألفوا زيارته في مكتبه أو في قصره، يذكرون له تواضعه الجم، وشفافيته، وعفويته، ومناقبه الشخصية كافة. فإذا كان غاضبا لا يمكنه اصطناع الابتسامة «الدبلوماسية» لإخفاء مشاعره، كما هو دأب العديد من القادة والساسة المحترفين!

والحق أن الكاتب، أي كاتب، ليس بحاجة إلى أن «يمتدحه»، فحسبه أن يصفه كما هو... ليجد أن مناقبه تغني عن مدحه بما ليس فيه! فحين يزوره مواطن في مجلسه تنفرج أساريره بابتسامته الجذلى يصافح بها المواطن قبل مصافحته له بيده.

وقد اخترت في مقالتي عن سموه «أمس واليوم» الحديث عن الإنسان فيه، ربما لأن جعبتي في هذا المنحى كثيرة ومتنوعة، لأني عرفته منذ أن كنت صبياً مراهقاً، وليس منذ أن كان سموه مراهقاً، كما ورد خطأ بمقالة أمس! وآمل أخيراً أن تتاح لي الفرصة لأكتب عنه باستفاضة تليق بمقامه السامي المحبوب الذي نعته الشعب بالاسم «الحركي» الشائع «بابا سعد» الذي أشعرنا غيابه باليتم رحمه الله، وألهمنا جميعا الصبر والسلوان.

back to top