ملخص الحلقة السابقة

Ad

• غيرترود بيل ولورانس العرب كانا وراء تنصيب الشريف فيصل ملكاً على العراق وتأجيج الثورة العربية الكبرى.

• كانت أول فتاة تحصل على مرتبة الشرف في التاريخ من جامعة أوكسفورد.

• بيل اتسمت منذ نعومة أظافرها بالجرأة والجسارة إلى حد التهور!

• شغفت بالعلم والمعرفة وتسلق الجبال، وأتقنت سبع لغات من بينها العربية والفارسية والتركية.

• دخلت بيل مدينة حائل في قافلة ضمت 20 بعيرا محملة بالهدايا والمؤن بعد رحلة استمرت 3 أشهر.

• «في الصحاري العربية... كنا نخلد إلى نوم عميق لا يمكن لأي متمدن أوروبي أن يستمتع بمثله»... الخاتون.

• فرسان الدروز هاجموا قافلة الخاتون وسلبوا أسلحتها وذخائرها وهداياها غير أنها أعيدت إليها بعد أسبوع بوساطة مع المشايخ.

• سحرتها صحراء العرب وقالت أثناء رحلتها إلى حائل: «كثيراً ما اعتقدت أنني دخلت إلى كوكب آخر... وأنني أعيش أجواء ألف ليلة وليلة الحقيقية».

  • «التقيت السبهان خال أمير حائل وكان رجلا مثقفا وذكيا مقارنة بالبدو الآخرين، ويرتدي ملابس حريرية من الهند ويمتشق سيفا من الذهب»... الخاتون.

• لم تدخل مدينة حائل وظلت حبيسة دار الضيافة خارج الأسوار... ولم يُسمَح لها بالتجول في المدينة إلا في آخر يوم من رحلتها.

إنني إذ أقدم على تعريب هذه التقارير إلى اللغة العربية، فإن ذلك لا يعني أنني متفق مع ما جاءت به الكاتبة من آراء واستنتاجات، ولكنني أقدمت على تعريب هذه التقارير لأن الكاتبة قدمت معلومات توثيقية عن أحداث مهمة مر عليها ما يقرب من تسعة عقود وقد اطلعت فئة قليلة على هذه المعلومات... لذا وددت تعميم الفائدة لكسر حاجز اللغة. آملا بهذا العمل أن أكون قد أضفت جديداً إلى المكتبة العربية.

المترجم

خفاف الإبل

في فبراير 1914 بلغت قافلة غيرترود بيل مشارف جبل شمر وجاءها رسول الأمير ابن رشيد يخبرها بانشغاله بغزوات خارج عاصمته حائل، وأن خاله (إبراهيم السبهان) يقوم بمهامه بالنيابة عنه ومُنعتْ من دخول حائل، وسُمِح لها بالبقاء فقط في دار الضيافة خارج أسوار المدينة.

مكثت غيرترود بيل في دار الضيافة عدة أيام وكانت تزورها من وقت لآخر فاطمة جدة الأمير الشاب وأخريات. بعدها دعاها خال الأمير لزيارته في المجلس وجلست إلى يمينه واحتست القهوة معه وأظهر لها الود. وقدمت إليه هدايا من الملابس الحريرية ومسدسات ومناظير.

وقد تعرضت لضائقة مالية حين نفد ما عندها من مال. وكانت تحمل حوالة مالية بمبلغ مئتي جنيه إسترليني تستحق السحب من حائل إذ دفعت قيمتها إلى وكيل ابن رشيد في دمشق. وعندما طلبت مبلغ الحوالة قيل لها إن المخول بالدفع هو أمين خزينة الأمير وهو أيضا مشارك للأمير في غزواته خارج المدينة. وأخيرا استطاع أحد أصدقائها إقناع جدة الأمير التي كانت على ما يبدو المسؤولة الحقيقية عن الخزينة أن تعطيها بعض المال.

في اليوم الأخير من زيارتها التي استغرقت اثني عشر يوما سُمِح لها بالتجوال في المدينة وتحوّلت إلى ظاهرة يتجمهر حولها السكان. وقد وثَّقت غيرترود أحوال المدينة والطبيعة الاجتماعية لأهلها وعاداتهم اليومية وكتبت عن حائل ما يلي: «... بالرغم من أن حائل لا تختلف عن أي مدينة أخرى، فإنها تتمتع بنوع من البداوة... طرقها تكسوها رمال الصحراء، وتخلو من دوران عجلات المركبات وصريرها، وكل ما يُسمع من ضوضاء المرور هو صوت خفاف الإبل التي تسير على هذه الطرقات...»، (وهو التوصيف الذي أوردته في مذكراتها في الثامن من مارس 1914)، والتقطت صورا فوتوغرافية نادرة تُعد اليوم مرجعا مهما عن أحوال حائل قبل 90 عاما، عن الناس وطبيعة الملابس ومساكنهم والري ومجتمع النساء.

منصب رسمي

بعد ذلك ذهبت إلى العراق التي طاب لها المقام فيه فأمضت بقية حياتها هناك. في نوفمبر 1915، استدعيت غيرترود بيل إلى «المكتب العربي» في القاهرة (مكتب الاستخبارات البريطانية الخاص بالعالم العربي) تحت قيادة الجنرالِ غلبرت كلايتون، وقابلت لورنس العرب ثانيةً. في البداية لَم تعيّن في منصب رسمي؛ ولكن لسعة اطلاعها ومعرفتها بالشؤون العربية أفاد المكتب من معلوماتها في أسلوب التعامل مع العرب ومحاولة استمالتهم إلى جانب البريطانيين وتعبئة عواطفهم ضد الأتراك وتشجيع القوات العربية للالتحاق بالبريطانيين.

في مارس 1916، وَصلَت بيل إلى البصرة- التي استولت عليها القوات البريطانية في نوفمبر 1914- لمساعدة بيرسي كوكس Cox الحاكم البريطاني في العراق كضابطَ اتصال مع «المكتب العربي» في القاهرة، وأصبحت المسؤول السياسي النسائي الوحيد في القوات البريطانية، في هذه الأثناء تعرّفت على فيلبي Philby (الشيخ عبد الله فيلبي لاحقا) ويقال إنها علّمتْه فنون التجسسِ الدقيقة.

خيار تشرشل النسائي

عندما استولت القوَّات البريطانية على بغداد في 10 مارس 1917، استدعى الحاكم البريطاني للعراق (المندوب السامي) كوكس الآنسة بيل إلى بغداد ومنحها مسمى سكرتيرة الحاكم لشؤون الشرق. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها كان من نتائجها أن انهارت الامبراطورية العُثمانية في أواخر يناير 1919، فطلب من بيل تقديم دراسة تحليلية عن الوضع الراهن والخيارات المستقبلية لإيجاد قيادة في بلاد الرافدين (العراق). وكتبت تقريرا عُدّ مرجعا رسميا للبريطانيين. وقامت بدور حلقة الوصل بين القيادات العربية ومكتب الاستخبارات البريطانية الخاص بالعالم العربي في القاهرة المسمى «المكتب العربي». وكانت المرأة الوحيدة بين 39 رجلا اختارهم وينستون تشرشل وزير المستعمرات آنذاك (رئيس وزراء بريطانيا لاحقا) للمشاركة في مؤتمر عُقِد في القاهرة عام 1921 حول مستقبل العراق.

وفي المؤتمر أصرّت بيل على تنصيب الأمير فيصل ابن الشريف حسين ملكا على العراق بعد أن طرده الفرنسيون من سورية (ملك سورية المَخْلُوع) وتمكّنت من إقناع تشرشل بتنصيبه، وبذلك أصبح فيصل أول ملك للعراق.

«الخاتون»... صاحبة النفوذ

عندما وصل فيصل إلى العراق في يونيو 1921، أصبحت بيل المستشار الشخصي والسياسي له واهتمت بالأمور المحليّة وشؤون القبائل وأشرفت على اختيار المُعيّنين للمناصب المهمة في الحكومةِ الجديدة. وتُوّجَ فيصل ملكا على العراق في 23 أغسطس 1921. (الملك فيصل ولد بالطائف عام1885، درس في مدارس اسطنبول واختير عام 1913 نائبا عن مدينة جدة في مجلس النواب العثماني، أجاد الملك فيصل اللغتين التركية والفرنسية إلى جانب لغته العربية، وتوفي في سويسرا عام 1933 ودفن في بغداد).

وأصبحت بيل الشخصية المؤثرة والمتنفذة في الحكومة العراقية ولتأثيرِها على الملك الجديد أطلق عليها لقب «الملكة غير المتوَّجة للعراق»، و«الخاتون» وتعني السيدة. وأصبح التقرب إلى الخاتون وكسب ثقتها ورضاها هدفا لكثيرين من الساسة والمتطلعين إلى المناصب والنفوذ، أما من يعاديها أو يختلف معها، حتى لو كان من أبناء جلدتها، فإن مصيره النفي والنقل ومن ضمن مَن تعرض لانتقامها زعيم البصرة طالب النقيب الذي كان مرشحا لتولي عرش العراق والسياسي البريطاني الشهير فيلبي. (حسبما أورد عبدالرحمن منيف في تقديمه لـ«غيرترود بيل»)

وقد أحبت بيل العراق وأصبح بلدها الأول وقد عبّرت عن ذلك بقولها في إحدى رسائلها إلى والدها لست مهتمة بالعودة إلى لندن فأنا أحب بغداد، إنها الشرق الحقيقي تغمرني على الدوام وتحتويني برومانسيتها.

أديبة مفعمة بالإحساس

إلى جانب عملها السياسي اهتمت بيل بالآثار العراقية والتنقيب عنها وأشرفتْ على الاكتشافات وجمعت المصنوعات اليدوية وفيما بين عامي 1923 و1926 عملت على إنشاء متحف للآثار في بغداد وأصبحت مديرة له. وكان المتحف في البداية داخل أسوار القصر الملكي. وكان لها رأي حول الآثار بأن تبقى آثار كل بلد في بلدها الأصلي لا أن تُنقل خارجه، وهذا التوجه كان مخالفا للرأي الأوروبي السائد آنذاك، وتم افتتاح المتحف في يونيو 1926. بالإضافة إلى أدوارها السياسية تجدر الإشارة هنا إلى أن بيل كانت أديبة مفعمة الإحساس وقد أفادت من تعلمها الفارسية وإجادتها لها بالقيام بترجمة ديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي ترجمة رصينة اعتبرها النقاد أفضل ما تُرجِم من الشعر الفارسي إلى الإنكليزية.

الكآبة والانتحار

واجهت غيرترود بيل في أواخر حياتها بعض المشكلات الصحية والأسرية: من اعتلال في الصحة إذ كانت تعاني أمراضا رئوية، ومشكلات أسرية تمثلت بوفاة أخيها بالتيفوئيد في انكلترا وأفول نجم عائلتها ماليا، فانتابتها أحاسيس بالوحدة واستولت عليها الكآبة، مما دفعها إلى الإقدام على الانتحار بتناولها جرعة زائدة من دواء منوم في 12 يوليو 1926. ولم تتزوج غيرترود بيل طوال حياتها ولم يكن لديها أطفال. ودفنت في المقبرة البريطانية في الباب الشرقي في بغداد. وقد خلّفت غيرترود بيل وراءها بعد وفاتها أرشيفا ضخما من الرسائل والصور الفوتوغرافية بلغت حوالي 7000 صورة أودعت في مكتبة جامعة نيوكاسل، والصور أغلبها يتعلق بالمظاهر المختلفة في حياة شعوب منطقة الشرق الأوسط. أما الرسائل فهي التي أرسلتها إلى أبيها إلى جانب مذكراتها أو يومياتها التي كانت تدوّن فيها كل شيء عن رحلاتها ونشاطاتها السياسية.

وقد قامت زوجة أبيها- بعد سنة من وفاتها- بنشر رسائلها في مجلدين ضخمين. ولاقت رسائلها رواجا وإقبالا منقطع النظير من القراء في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية حتى عُدّت من أكثر الكتب مبيعاً على ضفتي الأطلسي في الثلاثينيات.