في الجزء الأول من هذا المقال أشرنا الى شرطين أساسيين للتصرف الأخلاقي: الأول، هو الرغبة الصادقة في القيام بما هو «صحيح». والثاني، هو معرفة ما هو الصحيح والقدرة على تمييزه عن الخطأ. وأعطينا أمثلة بسيطة على اختلاف الأديان والمذاهب والطوائف في تعريفها لما هو صحيح ومقبول، بالإضافة إلى أمثلة واضحة على عدم اتساق المقبول دينيا دائما مع ما هو مقبول اجتماعيا.

Ad

وتزداد الأمور تعقيدا بخلط الأديان بالسياسة حيث تتبنى الأديان كلها مبدأ الغاية تبرر الوسيلة مما يزيد من الغموض والإبهام الأخلاقي. فعلى سبيل المثال يعارض الإسلام «دعوى الجاهلية» المتمثلة بالفزعة القبلية والعنصرية، ولكن الساسة الإسلاميين لا يجدون غضاضة في الدخول في الانتخابات الفرعية (القبلية والمذهبية) لتحقيق مآربهم السياسية. الإشكال نفسه يتضح في التحالفات السياسية واستخدامات المال السياسي وغيرها من الممارسات اللاأخلاقية. وهذا يؤكد استنتاجنا في الجزء الأول حول التباس وغموض واختلاف تعريف ما هو أخلاقي في الدين. ويبقى السؤال: هل تهيئ الأديان الشرط الثاني للعمل بالأخلاق؟ وهل تخلق الدافع؟

لتعزيز الحلال والحرام تعتمد الأديان كلها مبدأ الترغيب والترهيب من خلال الثواب والعقاب. لذا، فإن الدافع للالتزام بالحلال هو بلوغ الجنة، والدافع للابتعاد عن الحرام هو الخوف من عذاب القبر واليوم الآخر. وعليه فإن الدافع (نظريا) ليس «القيام بما هو صحيح»، إنما لمصلحة شخصية جدا «الثواب أو الحماية من العقاب». وهنا يختلف الفلاسفة إن كان ذلك مازال يعد عملا أخلاقيا أم لا. ولكن بشكل عام لا يعد العمل الخير أخلاقيا إذا كان بقصد مصلحة خاصة أو تحت تهديد أو رشوة.

الأخطر ان اعتماد الحسنات والسيئات كدافع وحيد للسلوك الأخلاقي سيحول القرار إلى عملية موازنة لا عملية مبدأ. كأن يقوم أحدهم بدفع صدقة مقابل كذبة صغيرة أو غيرها من التصرفات اللاأخلاقية التي يمكن معادلة سيئاتها بحسنات من تصرف آخر أو يمكن تغطيتها برصيد الحسنات المتوافر.

لذا من المنطقي أن نستنتج أن الدين- كما القانون- جاء لتعزيز الأخلاق وليس لخلقها. الفرق أن القانون في الغالب واضح وسهل التغيير ومفتوح للنقاش والتمحيص. في حين أن الدين يمكن أن يتحول وبكل سهولة إلى مخدر أو مضلل لأي دافع أخلاقي كما يتضح في المثل الشعبي «قطها (ارمها) براس عالم واطلع (اخرج) منها سالم». ومن هنا تأتي خطورة الوصاية التي تحاول جماعات الإسلام السياسي فرضها علينا. فهذه الوصاية تقتل بذرات الضمير الحي كلها لأنها تضع نفسها مكان هذا الضمير وترفع المسؤولية عن الفرد بتحملها المسؤولية بنفسها... ويا ليتها كانت على قدر هذه المسؤولية.