عالم مجنون يحكمه الجهل
كعادتها، لم تصغِ كوريا الشمالية إلى أصوات التهديد والوعيد، فأطلقت صاروخها الباليستي البعيد المدى، وبهذا تحقق هدفين: الأول دخول بيونغ يانغ نادي دول أسلحة الدمار الشامل من الباب الخلفي، والثاني تعزيز مقولة إن الأمن العالمي لم يعد على هامش الخطر بل صار في قلبه.* * *
بعد سقوط جدار برلين في بداية التسعينيات وما نتج عنه من زوال إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، دعا أحد اللبنانيين المعروفين إلى إقامة احتفال في باريس، ليس لمناسبة سقوط الشيوعية العالمية، بل لتكريس زعامة الولايات المتحدة وسيطرتها كقوة عظمى وحيدة في العالم. كان «روبرت بير» Robert Baer واحداً من الحاضرين. و«بوب» كما يسميه أصدقاؤه كان في حينه لايزال يعمل كضابط في الـCIA انطلاقاً من الساحة الباريسية وذلك قبل أن يجد ظله، بعد أن ترك أو أُجبر على ترك العمل الاستخباري الميداني، وامتهن الكتابة مستفيداً من خبرته الطويلة في آسيا الوسطى وفي الشرق الأوسط خصوصا لبنان خلال فترة الحرب الأهلية. وقد تحول أحد كتبه إلى فيلم سينمائي (سيريانا) الذي لم يلاق النجاح الذي يستحقه. «بوب» كان أحد «الثوار» داخل الـCIA وقد دفع الثمن كاملاً في منتصف التسعينيات.في ذلك الاحتفال الباريسي بانتصار الرأسمالية على الشيوعية قال لي «بوب» برنة حزن وقرف: «هؤلاء الذين يحتفلون هنا لا يقلّون غباءً عن أولئك الجالسين بعيداً في مراكز صناعة القرار الأميركي. إن سقوط الاتحاد السوفييتي اليوم هو نذير بحتمية سقوط الولايات المتحدة غداً. لقد انتهت مرحلة الاتحاد السوفييتي بعد أن أفلست في «لعبة بوكر» عالمية وفقدت كل رصيدها وطُردت من طاولة اللعب... بينما الولايات المتحدة ستتابع اللعب ورصيدها لا يزيد على عشرة دولارات، وستحاول أن «تبلف» العالم بأن ثروتها قد تضاعفت مرات، وستستمر في اللعب إلى أن تخسر ما تبقى من رصيدها. عندها ستقع الولايات المتحدة في سلسلة كوارث حيث تستخدم كل ما تبقى لديها من أوراق، وسوف تعتمد بشكل كلي على ورقة واحدة وهي ورقة الحرب أو الحروب الاستباقية التي ستؤخر عملية إعلان الإفلاس لفترة سنوات قليلة. هؤلاء الأغبياء الجهلاء الذين تراهم هنا، مع أقرانهم في واشنطن، يحتفلون ببدء العد العكسي لسقوط الإمبراطورية الأميركية.هذا الكلام قيل في بداية التسعينيات، حيث بدا لي حينذاك أنه نوع من القراءة الخاطئة في المستقبل؛ بل إن قائله طائر يغرد خارج سربه، لكن ما حدث بعد ذلك أكد صحة تحليل وواقعية هذا الطائر الشريد، وإليكم الأدلة المتوافرة حتى وقتنا الحاضر:• «بان كي مون» أمين عام الأمم المتحدة نطق في قمة الدوحة العربية بما لم يتجرأ واحد في مركزه أن يقوله. لقد وصف حالة الأمن الأممية بأنها غير مسيطر عليها وهي على شفير الانهيار، وكأنه بذلك ينفض يديه من تبعات الأزمات العالمية. ذهبت صرخته مع أعاصير الصحراء العربية بدليل أنها لم تـُسمع لا في القمة العربية ولا في القمة العربية–اللاتينية بعدها ولا في قمة العشرين التي تلتها. وتجاهل الإعلام الدولي وكذلك السياسيون كلام أمينهم العام وكأنه «كلام تخريف» لا يمت للواقع بصلة. لكن ما قاله يجسد صورة بالأبيض والأسود ما يجري في العالم. ولعل السبب الرئيسي الذي دفع الأمين العام إلى إطلاق صرخته التحذيرية يرجع إلى معرفته بتفاصيل حمى التسلح التي تحولت إلى وباء عالمي، والتسلح هنا لا يعني القوس والنشّاب، أو السيف والترس، أو حتى البندقية والمدفع. إنه يعني آخر ما أنتجته وما ستنتجه عقول العلماء من اختراع أدوات التدمير الشامل، وكأن الأسلحة الموجودة حالياً لا تكفي لتدمير الكرة الأرضية مئة مرة وربما أكثر.إن التكالب على تحديث وتصنيع أدوات الدمار الذرية هو الهاجس الذي يسيطر على عقول حكام العالم سواء كانت بلادهم تنتمي إلى العالم الأول الغني أو العالم الثالث الغارق في الفقر حتى العظم. وهذا ما يدفع إلى القول أننا نعيش في عالم مجنون تحكمه نخبة من صانعي قرارات حاضرة ومستقبلية تنتمي بالسليقة إلى فصيلة الأغنياء الأغبياء، لا هدف لهم سوى زيادة الأرصدة والنفوذ دون الالتفات إلى أنهم غير محصنين من كارثة التدمير الشامل الذي يقف جاهزاً ومستعداً بانتظار لحظة الصفر. إن عصر العمالقة الذين بنوا العالم وساهموا في نهضة العنصر البشري وحضارته قد ذهب وولى، والعالم اليوم بانتظار مجيء «غودو» للخلاص من فئة هؤلاء الجهلاء. والأمل أن يصل «غودو» قبل أن يُدمّر العالم.إن الأمثلة على صحة وواقعية هذا النواح أكثر من الهم على القلب، ولائحتها طويلة بمقدار طول شتاء القطب الجنوبي الذي يبشرنا العلماء بذوبان ثلجه وجليده خلال العشرين سنة القادمة. • المثال الأول هو الصين التي كانت في زمان مؤسسها وقائد ثورتها «ماوتسي تونغ» ورئيس وزرائه «شوان لاي» تخجل من تسمية نفسها دولة عظمى مستقبلية، لأن مفهومها للدولة العظمى آنذاك هو استعمار الشعوب اقتصادياً وعسكرياً لتأمين أسواق لمنتجات مصانعها. والصين كانت ترفع شعار تحرير الشعوب من الاستعمار العسكري ومن الامبريالية الاقتصادية. هذه الصين اليوم زادت ميزانيتها العسكرية بنسبة 15 في المئة عن السنة الماضية لتحديث ترسانتها النووية وبناء حاملات طائرات لم تكن تملكها أصلاً، ولأن الصين، كغيرها، تريد أن تحافظ على نمو اقتصادها ولو على جماجم الفقراء الذين نذرت نفسها في بداية ثورتها للذود عنهم فإنها اليوم استيقظت من حلم تحرير الشعوب الضعيفة وأعلنت انضمامها إلى هذا العالم المجنون.• أما روسيا الاتحادية تحت زعامة قيصرها الجديد بوتين فهي مستعجلة إلى اللحاق بالولايات المتحدة نووياً. ولم يخجل بوتين من الإعلان الصريح أن بلاده ستملك في السنة 2011 أسطولاً من القنابل النووية الحديثة مع أدوات حملها إلى كافة أقطار الدنيا، وإذا فعلت ذلك تكون قد وقعت مرة ثانية في الفخ الأميركي الذي دفعها إلى سباق التسلح الذي أفرغ خزائنها وخرجت مفلسة ثم تفككت إمبراطوريتها.• أما الولايات المتحدة، أساس المأساة النووية في العالم، فقد انضمت هي الأخرى إلى سباق تحديث سلاحها النووي، فوزير الدفاع «غيتس» أعلن منذ فترة و «بالفم» الملآن أن السلاح النووي الأميركي بات قديماً، وأن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى تحديث ترسانتها بسرعة حتى تستطيع أن تواجه تحديات العالم النووي الحديث. هذا مع العلم أن الولايات المتحدة، بالرغم من تراجع قيمتها المعنوية في المجتمع البشري، لاتزال تملك أكبر ترسانة تدميرية في العالم. والمعلومات تشير إلى أن «غيتس» قدم صيغة مشروع تحديث السلاح النووي إلى رئيسه أوباما الذي وافق عليه من الناحية المبدئية، لكنه طلب تأجيل العمل به بعد أن اطلع على تكلفته الخيالية. وفي كلمة ألقاها «غيتس» في شهر نوفمبر، وقبيل انتخابات الرئاسة قال: «إن إيجاد بديل حديث للسلاح النووي الأميركي ليس لخلق قدرة جديدة، لكنه يتعلق بالأمان والأمن والمصداقية». قال ذلك قبل أن يُعلن اختياره، وهو جمهوري الميول، من قبل أوباما الديمقراطي، للبقاء على عرش البنتاغون. وبعد الانتخابات وإعادة التعيين كتب «غيتس» مقالاً في مجلة «فورن أفييرز» في ديسمبر الماضي يقول: «... بالرغم من أن حرب «شدّ الشعر» بين القوى الكبرى في العالم قد انتهت؛ وطالما أن دولاً أخرى تملك القنبلة وتضع إصبعها على زنادها، فإن على الولايات المتحدة أن تتمسك باستراتيجية الردع النووي ذات المصداقية العالية». وقد علقت «مجلة التايم» في عددها الصادر في 26 يناير الماضي قائلة: «... سيجد أوباما صعوبة في تغيير مساره بين وعوده اللانووية قبل الانتخابات وضرورة تحديث أسلحة أميركا الذرية... إن أي خطوة نحو صنع قنبلة نووية جديدة ستُقرأ في الخارج على أنها اندفاع أميركي نحو مزيد من السيطرة على العالم، في الوقت الذي تشجع فيه واشنطن العالم لاتباع سياسة خفض إنتاج السلاح النووي. ومن المحتمل جداً أن ترد روسيا بدورها بتحديث سلاحها النووي». أما دول العالم الثالث فحدّث ولا حرج، بدءاً من إسرائيل ومروراً بالهند وباكستان وأخيراً وليس آخراً كوريا الشمالية و... إيران.وبعد؛ هل هناك من شك بأننا نعيش في عالم مجنون، يحكمه الجهل؟! * كاتب لبناني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء