أعصابك... يا سيدنا الشيخ!
قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ماكان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شــانه»... وقال أيضا: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا».***
شاهدت إحدى حلقات برنامج «أوبرا»، وقد تضمن لقاء مع سيدة أميركية مسلمة لطيفة للغاية، سألتها أوبرا مجموعة من الأسئلة عن «الإسلام» الذي يجهله كثير من الغربيين، أجابت الضيفة دائمة الابتسامة عن أسئلة أوبرا بطريقة سهلة ومبسطة، وبروح مرحة وخفة دم واضحة، مع أن بعض مداخلات ونظرات أوبرا حملت بعض الاستغراب والاستهجان والدهشة من الشريعة الإسلامية، لكن الضيفة المسلمة كسبت بإجاباتها الواثقة احترام الجمهور، ونالت التصفيق والتجاوب الذي تستحقه، لأنها شرحت معتقدها بهدوء وعفوية، لم تحدث أحدا عن جنة أو نار ولا عن عقاب أو ثواب، لم تأت على سيرة الآخرة أبدا، كان حديثها في مجمله «دنيوي» عن أثر الدين الإسلامي على حياتنا وتعاملاتنا اليومية، كانت بعيدة عن التكلف والتصنع والتعقيدات التي يهواها بعض علمائنا وفقهائنا، بعيدة عن كل تفسيراتهم وشروحهم المكررة المتوارثة من مئات السنين، والتي ملأوا آلاف المجلدات الضخمة بتفاصيلها المملة التي لا حاجة لأحد بها، فالقرآن الكريم كتاب واضح في لفظه ومعناه، ولا يحتاج الى كل هذه الجيوش المجيشة من المفسرين والشارحين المتكلفين، وتبيان الحلال والحرام فيه أبسط وأوضح وأسهل مما يتصور بعضهم! قلت إن إسلام هذه المرأة، كما بدا لي، كان إسلاما صافيا بلا تعقيدات، إسلام كما جاء في القرآن، التزام بالعبادات وحب للناس كافة، ودعوة الى عمل الخير ونبذ الشر، وتسامح وجدال بالحسنى مع اتباع الديانات الأخرى، وتذكير برحمة الله الواسعة، وطلب مغفرته، وحسن الظن برحمته، وتبشير بعفوه... شعرت براحة وطمأنينة بعد انتهاء البرنامج، ونويت أن أتوضأ وأصلي ركعتين لله، لكن الوضع لم يستمر طويلا، فقد تابعت برنامجا دينيا على إحدى القنوات الدينية، يسأل فيه المشاهدون شيخا معمما جليلا عن أمر دينهم، والشيخ يجيبهم بقرف وجلافة وعصبية لا مبرر لها، وأغلب الأسئلة ساذج جدا، ويدل دلالة قاطعة على أن الدين عند أكثرنا وراثي، وأن بعضنا لو ولد لأبوين يعبدان الأوثان لاتبع ملّتهما ولصنع صنيعهما، فهو مؤمن لفظا لا اقتناعا، ومسلم لا يعرف أبسط مبادئ الإسلام. وكالعادة، لم «يقصر» الشيخ فيهم و«لعن أبو أسلافهم» بفتاويه، والتي هي من نوع (حرام لا يجوز- حرام حرام حرام- يُصفد بالأغلال ويُقرض بالمقاريض- يُنشر بالمناشير- يُرمى بقعر جهنم- يُعذب بقبره- تُكوى بها جبهته)، وغير هذا من التهديد والوعيد والتحريم والتنفير لـ«مسلمين مؤمنين حبوبين» يسألونه عن أمر دينهم، فيجيبهم بعصبية غريبة، وكأنهم يطلبون سلفة منه!أمثال هذا الشيخ، مع الأسف الشديد، كثر في منطقتنا العربية، بل لعل أغلبية شيوخنا- هداهم الله- من «الستايل» نفسه، لا يعرفون الترفق بالناس، ولا التبسم في وجوههم، ويبخلون بالكلمة الطيبة، والنصيحة الصادقة الرقيقة، كل همهم هو التحذير من النار التي ستسلخ جلود الناس قريبا، أما الجنة فآخر ما يخطر على بالهم، وكأنهم يخاطبون كفار قريش، لا مسلمين مؤمنين مثلهم!تفكرت في الأمر لحظات، وتساءلت إن كانت الجغرافيا تلعب دورا في هذه «الجلافة»، فالإسلام هو الإسلام في كل مكان وزمان، فلماذا يختلف الناس في فهمه من بلد لآخر؟! ولماذا يأخذه قوم ببساطة ويسر ولين، ويأخذه آخرون بالشدة والعنف؟! هل الخلفيات الثقافية للشعوب هي سبب هذا الاختلاف، وأن الأشخاص الذين ينشأون في دول متحضرة، تعوَّد أفرادها على تعدد الآراء وقبول الآخر، وعدم امتلاك أحد للحقيقة المطلقة، يختلفون عمن تعودوا منذ صغرهم أن تفرض عليهم الآراء فرضا، من الأب بالمنزل، ومن المدرس بالمدرسة، ومن الشيخ في الجامع، ومن المسؤول في العمل، ومن أنظمة الحكم المستبدة، فمن الطبيعي أنه بوضع كهذا سيضيق الصدر فلا يتسع لأي مخالف، ويضيق العقل فلا يتسع الا لفكرة واحدة، وسيزعم حينها كل واحد أن مذهبه هو الأفضل، وأنه وحده على صواب والآخرين على خطأ، وأن فرقته هي الفرقة الناجية وبقية البشر خالدون مخلدون في النار، وسيهدد، ويتوعد، و«يعصب» على الناس، كما فعل الشيخ الجليل!إن كل أرض، أيها السيدات والسادة، تصبغ الدين بصبغتها، وهو أمر واضح جلي عندنا، فقد مزجنا جلافة صحرائنا بسماحة ديننا، ولوينا معاني الآيات لتتوافق مع بعض عاداتنا وتقاليدنا المتحجرة المنغلقة، فأسأنا لديننا قبل أن يسيء إليه الآخرون وحولناه من دين وسطية ومحبة وسلام، إلى دين يبدو، لمن يجهله، دين كراهية وعداء وانغلاق وتحجر، وما التحجر إلا في العقول والأهواء والنفوس!